الملفونو مارك توماس
الولايات المتّحدة الأمريكيّة
www.tomass.com
الدكتور مارك خربوطلي توماس هو خبير اقتصادي، مدرّس في جامعة هارفارد ومتخصّص في الأسواق والأزمات الماليّة والصراعات الدينيّة في الشرق الأوسط. يصوغ كتابه “الجذور الدينيّة للصراع السوريّ: إعادة تشكيل الهلال الخصيب” (2016) مفاهيم اقتصاديّة لتحديد آليّات تتحوّل من خلالها في كثير من الأحيان صراعات ذات طبيعة دنيويّة حول حقوق الملكيّة والفساد والمساواة والعدالة إلى صراعات دينيّة. وفي كتابه حول تقييم الحرب على الإرهاب يجمع بين خلفيّته كخبير في الاقتصاد الدوليّ وتاريخ الشرق الأوسط مع نشأته الشخصيّة في حيّ السريان في حلب لتقديم منهج عملي لفهم طبيعة الإرهاب وأسباب استمراريّته.
عدد صفحات المشاركة 41 صفحة (A4) .
توثيق لحملة طرد السريان من أورفا عام 1924
مارك خربوطلي توماس 1
ملخّص البحث
إنّ حادثة طرد السريان من موطنهم في أورفا هي حادثة فريدة من نوعها، حيث إنّ أحفاد المطرودين، أو الّذين طردوا وهم في سنّ مبكّرة، لم يتذكّروا السبب الحقيقيّ وراء حادثة الطرد، على الرغم من كونه حدثاً محورياً في تاريخهم. وكانت حالة نسيانهم لسبب الطرد فريدة من نوعها، لدرجة أنّها أصبحت موضوع أطروحة دكتوراه لباحثة يابانيّة، الّتي استنتجت بأنّ سريان أورفا يعانون من فقدان انتقائيّ للذاكرة. والأكثر إثارة للقلق هو ظهور نظريّة في الماضي تزعّم “الهجرة الطوعيّة” من أورفا. ومن المؤسف للغاية أنّ هذه النظريّة قد تمّ نشرها أيضاً لسبب غير مفهوم من قبل من لم تكن عائلتهم من بين المطرودين. ولذلك أخذت على عاتقي مهمّة التحقيق في السبب الحقيقيّ لطرد السريان من أورفا.
يوثّق القسم الأوّل من هذا البحث طرد السريان من أورفا بناء على ثلاثة مصادر منفصلة: أوّلاً، تاريخ عائلة المؤلّف الشفويّ، ثانياً، نصّ وثيقة “نداء من قبل السريان” الموجّه من قبل السريان المطرودين في عام 1924 إلى وزارة الخارجيّة التركيّة، وثالثاً، لتأكيد المصدّرين الأوّليّين يورد البحث الاتّصالات الدبلوماسيّة المؤرشفة بخصوص ذلك الطرد. يضع القسم الثاني طرد السريان في السياق التاريخيّ للعهد العثمانيّ المتأخّر. ثمّ يصف القسم الثالث تأسيس حيّ السريان في حلب. ويتناول القسم الرابع الآفاق القاتمة لبقيّة السريان في وطنهم في خضمّ الصراع الدينيّ السوريّ المستمرّ، وأخيراً، يشكّل القسم الخامس تكهّناً لاحتمال استمرار بقاء الهويّة السريانيّة في دول الشتات.
حادثة الطرد
سريان حيّ السريان في حلب هم من مسيحيّي مدينة أورفا الواقعة في شمال بلاد الرافدين، والّتي تعرف باللهجة السريانيّة الشرقيّة (المعروفة بالآشوريّة) أورهاي أو باللهجة السريانيّة الغربيّة أورهوي2 ، باليونانيّة وباللاتينيّة: إيديسا، بالعربيّة: الرها، بالتركيّة: أورفا وبالتركيّة الحديثة: شانلي أورفا، وهم الّذين طردوا من ديارهم في شهر شباط من عام 1924، بعد أقلّ من عامين من تشكيل الدولة القوميّة الحديثة في تركيّا بقيادة مصطفى كمال.3
جاء طردهم في أعقاب إنذار نهائيّ وجهه محافظ أورفا إسماعيل عزّت بك مع رئيس البلديّة وحزب الشعب، الحاجّ مصطفى كامل أفندي إلى وجهاء السريان. حدّد الإنذار النهائيّ أنّه: (أوّلاً) يجب على الأرمن مغادرة أورفا في غضون أسبوع واحد، (وثانياً) يجب على السريان مغادرة أورفا في غضون شهر واحد، ويجب عليهم تسليم ممتلكاتهم إلى الدولة ودفع فدية قدرها 1100 عملة ذهبيّة عثمانيّة مقابل مرورهم الآمن إلى سوريا4. وقد تمّ تنفيذ هذا الأمر من قبل العصابات المحلّيّة من خلال عمليّة غير رسميّة من جرائم القتل والتهديدات بالقتل الموجّهة إلى أعيان السريان.
في كانون الثاني من سنة 1924، قتل مسلّحون بوغوص شمّاس برصاصة في فمه لتحدثه علناً ضدّ الضغوط لطرد السريان من أورفا، وسحل جثمانه إلى وسط الساحة في المدينة القديمة. وفي وقت لاحق، وجّه القتلة تهديداً بالقتل إلى ابن أخيه يعقوب شمّاس (جدّ المؤلّف) مضمونه “غادر أورفا واترك وراءك جميع ممتلكات عائلتك، وإلّا فإنّنا سنطلق النار عليك بالطريقة الّتي أطلقنا بها النار على عمّك بوغوص”.5
دفع جوّ الخوف نحو 4500 سريانيّ، أي ما يعادل نحو 600 عائلة، إلى الالتزام بأمر الطرد من المدينة. وأمر بجمع أرباب الأسر في فناء الكنيسة وأجبروا على التخلّي خطّيّاً عن مطالباتهم القانونيّة بممتلكاتهم والتخلّي عن حقّهم في العودة إلى ديارهم في أورفا. ثمّ اتّجهوا جنوباً في عدّة قوافل نحو حلب الّتي كانت أقرب مدينة رئيسيّة تحت الانتداب الفرنسيّ. بعد أن استقرّوا في مخيّمات في حلب، كتب اثنان من رجال الدين في كنيستي السريان البروتستانتيّة والسريان الأرثوذكسيّة، باسوس يعقوب وقسّ حنّا، النداء التالي إلى وزارة خارجيّة الجمهوريّة التركيّة يفصلان فيه الأحداث الّتي وقعت في أورفا في كانون الثاني وشباط من عام 1924.6، 7
فيما يلي نسخة من النداء الأصليّ الّذي نشر في مجلّة بيت نهرين بالخطّ الغرشونيّ (العثمانيّة التركيّة المكتوبة بأحرف سريانيّة). يلي الوثيقة الأصليّة ترجمة لها إلى اللغة الإنجليزيّة لأوّل مرّة في عام 2022 من قبل الملفونو عبد المسيح بار أبراهام، وترجمها المؤلّف بدوره إلى اللغة العربيّة. لاحظ أنّه بالإشارة إلى الكلمة العربيّة “سريان”، يستخدم “النداء” المصطلح “سريانيّين” أو “آثوريّين” بالتبادل. انظر مثلاً إلى المقطعين من “النداء”: الصفحة 5، العنوان، سوريانيلنرين بير مراجعات (بالعربيّة: نداء من السريان).
انظر أيضاً الى الصفحة 8، السطر 2، الكلمة الثالثة (أثوري): حلبده ساكين أثوري مهاجرار (بالعربيّة: مهاجرين أشوريّين ساكنين في حلب…)
ترجمة الوثيقة
نداء من السريان8
تمّت مناقشة هذا النداء الّذي قدّمه مهاجرو أورفا السريان الّذين استقرّوا في حلب إلى الحكومة التركيّة في صحيفة “دوغرو يول” الصادرة في حلب تحت العنوان أعلاه. وبما أنّ هيئة تحريرنا تلقّت هذا المقال للنشر في بيت نهرين، فإنّه مستنسخ هنا كما هو.
إلى وزارة خارجيّة الجمهوريّة التركيّة
يطلب خدّامكم، أن…
نقدّم الحالة الحزينة للسريان الّذين تمّ نفيهم / تهجيرهم من أورفا إلى مقدّمة حمايتكم الشاملة، وهي شاملة، ويشرّفنا أن نطلب رحمتكم العظيمة فيما يتعلّق بالمصائب الّتي عانوا منها ظلماً.
من المستحيل إنكار أنّ المجتمعات السريانية كانت منذ ستّمائة عام تحت إدارة الدولة العثمانيّة، ومنذ تغييراتها الأخيرة، تحت ولاية الجمهوريّة التركيّة، دون أن تكون مرتبطة بأيّ حكومة أخرى. لقد برزوا بولائهم ونواياهم الحسنة، ولم يؤذوا أبداً مشاعر المواطنين الأتراك أو الإدارة بأيّ شكل من الأشكال أو سياسيّاً.
لقد عانى المجتمع المعنيّ، كما فعل منذ فترة طويلة بسبب طبيعة تفانيه، من العديد من الصعوبات والمصاعب الّتي لم يتمّ تجربتها أو رؤيتها حتّى خلال الحرب العالميّة الأولى. لقد أوفت بجميع أنواع التضحيات من حيث الأرواح والممتلكات للحكومة الّتي ترتبط بها. وبدلاً من مكافأتهم مقابل خدمة الولاء، تمّ الانتقام منهم بأقسى الحدود، وعوقبوا بتشريدهم وقتلهم ظلماً مع عناصر مسيحيّة أخرى.
كنّا نأمل ونتوقّع أن نعيش حياة سلميّة من خلال الاستفادة من اتّفاق السلام العامّ. على الرغم من أنّ سياسة الإبادة طبّقت على حساب المسيحيّين في تركيّا خلال الحرب العالميّة الأولى، إلّا أنّ ترحيل الناجين من المسيحيّين عراة (دون أيّ شيء) بعد الهدنة مستمرّ. وأعلن عن إعدام السريان من قبل الشيخ صفيت أفندي، الّذي جاء إلى أورفا من أنقرة قبل خمسة أشهر، وأصبح عضواً في مجلس البرلمان عن أورفا. شكّل حزباً من الأتراك في أورفا يسمّى “حزب الشعب” واستفزّ الجمهور بأوامر ضارّة وخوف. عند عودته، كشفت الحاجة إلى مغادرة السريان في أورفا للبلاد (علناً) من قبل والي أورفا [إسماعيل] عزّت بك، إلى جانب رئيس البلديّة وحزب الشعب، حاجي مصطفى كامل أفندي.
وتقرّر أن يوضع هذا التحذير، الّذي لم يلتفت إليه في البداية، موضع التنفيذ من خلال الترهيب/الخوف والإرهاب. واتّهم شخص مسنّ من طائفتنا يدعى عبد الأحد ماردو، بأنّه سافر إلى الخارج، وعاد بعد الاتّصال بالعدوّ (هناك). وتمّ ترحيله بعد أن دفع أكثر من ستّة آلاف ليرة من البضائع المنقولة، بينما صودرت ممتلكاته غير المنقولة.
وقتل صيدليّ أرمنيّ يدعى قركين علناً في الشارع في وضح النهار وصودرت ممتلكاته. وأشيع أنّ هذا كان من المفترض أن يكون تهديداً، والّذي بموجبه ستستهدف هذه الحركة مجتمعنا. دخلت العصابات القائمة منازل الأثرياء في مجتمعنا ليلاً، مسلّحة، واستولت على الكثير من المال، مهدّدة الناس بالقتل.
وكما تبيّن هذه الأمثلة، كان على المجتمع المعنيّ، الّذي تعرّض للتعذيب يوماً بعد يوم ويأس من العيش تحت الحصار في منازله، أن يبحث عن حلّ من الحاكم المذكور أعلاه للتخلّص من مشاكلهم. وعرضت عليهم الشروط التالية كوسيلة للّجوء عن طريق الرئيس المذكور آنفاً.
الأول (1)
إصدار لوثائق رسميّة لإثبات أنّ البلد قد ترك طوعاً مع تجنّب العودة، وأن يوقّعها كلّ ربّ من أرباب الأسرة؛ وأنّه كان لا بدّ من مغادرة البلاد في أسرع وقت ممكن. وكان من المقرّر إرسال برقيّة تفسّر الوضع إلى حكومة أنقرة.
الثاني (2)
تجنّب الاتّصال المفتوح أو السرّيّ والاتّصال بطرف في هذا الشأن.
الثالث (3)
في مقابل حماية الأرواح والممتلكات والشرف إلى ما وراء حدود البلاد، سيتمّ دفع 1100 قطعة نقديّة من ذهب عثمانليّ (حتّى ولو هذا المبلغ المطلوب لكثير فهو ثابت) من قبل المجتمع بأكمله.
الرابع (4)
هذا “الاتّفاق مختوم وموثّق ومؤكّد بقسم (وبالتّالي يتمّ إجراؤه بشكل لا رجعة عنه)
الشروط المذكورة، والّتي وضعت تحت الإكراه والضغط، قبلها السريان في أورفا في حالة من الخوف على الحياة، وتمّ جمع المبلغ الّذي طلبه المجتمع وفقاً لملاءة الجميع، وأعطيت للرئيس المذكور أعلاه حاجي مصطفى أفندي.
على الرغم من أنّ مفتّش الدولة في أورفا، الّذي أصبح على علم بحقيقة أنّ هذا الدفع القسريّ، الّذي تمّ دفعه كثمن للهروب، لا يمكن أن يبقى سرّاً، إلّا أنّ غالبيّة المجتمع كان قد هاجر بالفعل عندما بدأ تحقيقه في هذا الموضوع. إنّ التحقيق في مثل هذا الموضوع المهمّ من قبل عدد قليل من الأشخاص الّذين يفتقرون إلى حرّيّة التعبير والسلطة الشخصيّة يؤدّي بطبيعة الحال إلى حقيقة أنّ المساعي تكون غير ناجحة.
باع السريان ، الّذين أجبروا فجأة على المغادرة، ممتلكاتهم المنقولة دون قيمة، في حين صادرت الحكومة ممتلكاتهم غير المنقولة. بعض الطغاة، مثل زعيم قبيلة باديللي، سعيد بك، وشكري آغا، صهر بدري آغا، عضو مجلس البرلمان من قبيلة أوتاغوتشا، أخذوا وصادروا المباني الّتي يحبّونها دون تكلفة، فقط على أساس الإجراءات الشكليّة والسندات المزوّرة.
وحصل بعض [السريان] المستفيدين على القليل أو لا شيء مقابل قيمة بعض المنازل (الّتي بيعت قسراً) أو الّتي تمّ التخلّي فيها عن حقوق الملكيّة. وبالتّالي، كانت خيارات الشعب محدودة للغاية. وحتّى الديون الّتي كانت عليهم للقرى المحيطة بهم لم يعد من الممكن تحصيلها. ولذلك، لم يتمكّنوا من سداد ديونهم الخاصّة، وبالإضافة إلى ذلك، فرضت عليهم السلطات ديوناً جديدة تحت أسماء غامضة، كان عليهم دفعها إلزاميّاً. وبما أنّهم أعطوا الكثير من المال للعصابات، فإنّهم لم يغادروا أورفا إلّا بأموال تكفي لتغطية نفقات الطرق للوصول إلى حلب.
على الرغم من حقيقة أنّ حقوق الأقلّيّات مكفولة بموجب اتّفاقيّة السلام [لوزان] والولاء الّذي أظهرناه منذ ستّمائة عام، فإنّ السريان لا يفكّرون أو يحلمون بالعودة إلى أورفا بسبب كلّ السلوكيّات غير العادلة والعدائيّة الّتي تمّ الانتقام منها ضدّنا.
ولكن الأول (1)
التعويض عن الممتلكات الشخصيّة المنقولة الّتي اضطرّوا إلى التخلّي عنها و/أو منحها مجّاناً، وكذلك عن الهياكل الدينيّة والمؤسّسات الخيريّة، مثل الكنائس وأماكن العبادة والأديرة والمدارس والأماكن التابعة للأبرشيّة والمؤسّسات.
ثانيا (2)
التعويض عن جميع الخسائر والأضرار الّتي تكبدوها بسبب القمع والطرد من مجتمعهم الروحيّ ووطنهم السابق.
طرف ثالث (3)
ونأمل من سعادتكم أن تتقبّل الاحترام الخاصّ من شعب عاجز، مع توقّع قويّ من لطفكم ومساعدتكم في هذه المسألة المحزنة للناس داخل أورفا وخارجها.
نيابة عن الطائفة البروتستانتيّة السريانية في أورفا
القائم بأعمال القائد الروحيّ
باسوس يعقوب
طائفة أورفا السريانية الأرثوذكسيّة
القائد الروحيّ
قس حنّا
تعليقات من بيت نهرين
كلّ من يفحص المحتوى المرير للبيان المكتوب الّذي قدّمه المهاجرون السريان في حلب إلى وزارة الخارجيّة التركيّة، مع إرسال نسخ منه إلى الحكومة الفرنسيّة وعصبة الأمم، لا يسعه إلّا أن يشعر بالأسف.
على الرغم من ولائهم لأدنى فرد من سلاطين تركيّا منذ مئات السنين، إلّا أنّ اضطهاد السريان الفقراء من قبل الحكومة التركيّة، الّتي تطوّرت / تغيّرت مؤخّراً من سلطنة إلى جمهوريّة، من الاستبداد إلى الملكيّة البرلمانيّة، مؤلمة ومأساويّة لدرجة أنّها تجعل من نسيان اضطهاد تيمور وجنكيز وهولاكو.
لقد ضخمنا من وقت لآخر هذه المعاناة والكوارث من خلال الكتابة في أعمدة هذه المجلّة أنّ الأتراك لم يكافئوا السريان أبداً وفقاً لولائهم. يبدو أنّ بعض ذكرياتنا تمسّ كرامتهم، على الرغم من أنّنا وعدنا بتلبية توقّعات قرّائنا.
وفي الآونة الأخيرة، وخلال أيّام التعبئة، وبينما كنّا نرفع صوتنا ضدّ الاضطهاد من خلال هذه المجلّة، وبينما كان الأتراك يسفكون دماء الآلاف من مواطنينا السريان دون سبب، وبخنا سعادة جرجس باشا ابن ألاجاجي، أحد وجهاء شعبنا الأورفليّ، الّذي يعيش بالقرب من إسطنبول. أرسل إلينا رسالة كانت عتاباً، وليس من الصواب أن يكتبها حتّى رجل عاديّ. كانت رسالته مليئة بالهراء والافتراءات مثل “السريان لم، ولن يجدوا أيّ ملاذ أو ملجأ آمن سوى الحضن الرحيم للأتراك”.
أين كان معالي جرجس باشا عندما استؤصل السريان البائسون في أورفا من “عناقهم الرحيم” وطردوا؟
لماذا لم يعمل كوسيط لهذه الأمّة، ويواجه الأتراك بالعبارة المذكورة أعلاه، والّتي استمدّها من التاريخ؟
ولماذا لم ينقذ مواطنيه السريان من ويلات المنفى؟
بعض الصور لأورفا من فترة الإبادة الجماعية
أورفا، 1896. برج الأربعين شهيد. وهي الآن مئذنة مسجد النبي إبراهيم خليل الرحمن، الذي حل محل كنيسة والدة الإله التي بناها إمبراطور الروم زينو في القرن الخامس على أنقاض “مدرسة الفرس” التي أغلقت ودمرت بسبب كونها مركزا للتعليم “النسطوري”.
قلعة أورفا وبرج الكاتدرائية السابقة، 1923
أورفا 1926. دير موقع دفن مار أفرام السرياني في البساتين إلى الغرب من سور مدينة أورفا. يشار إليه حاليا من قبل المسلمين باسم خضر إلياس. تم تحويله من قبل الأرمن إلى دير القديس سركيس بعد أن أصبح الأرمن أكثر عددا من السريان في أواخر الفترة الصليبية. حاليا هي مدرسة يعقوب كالفا الابتدائية العامة.
أورفا: بركة إبراهيم والكاتدرائية (الجانب الأيسر)، 1896
أورفا، 1924
السياق التاريخي لطرد السريان من أورفا
ما يشير إليه السريان باسم سيفو عام 1915 لم يكن سوى جزء من سلسلة القتل الجماعيّ للأرمن والسريان واليونانيّين الّتي امتدّت حوالي ثلاثين عاماً. إنّها قصّة بدأت قبل عقدين من 1915، وامتدّت لمدّة تسع سنوات بعد ذلك. القصّة هي جزء من تاريخ طويل من العنف الجماعيّ ضدّ المسيحيّين بشكل عامّ. تمتدّ هذه القصّة من سنوات ما قبل الحرب العالميّة الأولى في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، ومن خلال هيمنة لجنة الاتّحاد والترقّي في زمن الحرب؛ ومن ثمّ صعود القوميّين الأتراك بعد الحرب مباشرة بقيادة مصطفى كمال الملقّب بأبي الأتراك (أتاتورك). في ظلّ كلّ حكومة، أصبح الأتراك المسلمون، بمن فيهم القادة السياسيّون والمواطنون العاديّون، يرون في المجتمعات المسيحيّة في آسيا الصغرى خطراً على بقاء دولتهم، وعقدوا العزم على التخلّص من هذا الخطر. كان غير المسلمين يعتبرون خونة يتعاونون مع قوى خارجيّة لتقطيع أوصال الخلافة العثمانيّة. لذلك تماشيا مع الظروف السياسيّة والعسكريّة والديموغرافيّة المتغيّرة، تعاملت الأنظمة المتعاقبة مع المجتمعات المسيحيّة بشكل مختلف إلى حدّ ما، وإن كان ذلك للغاية نفسها. في سياق ثلاث حملات بدأت في عام 1894، تحوّل الأتراك إلى أدوات القمع المستمرّ، والقتل الجماعيّ، والاستنزاف، والطرد، والتحوّل الدينيّ القسريّ. بحلول عام 1924 كان الأتراك قد طهّروا آسيا الصغرى من أربعة ملايين مسيحيّ.
بدأت حملة القتل الجماعيّ بسبب مسيرة احتجاجيّة في إسطنبول في 30 أيلول 1894، حيث تجمّعت مجموعات من الأرمن، يقدّر عددهم بين 500 و2000، في كوم قابي، بالقرب من البطريركيّة الأرمنيّة، وتقدّموا نحو مكاتب الوزير الأكبر للتعبير عن “مظالمهم”. تمّ تنظيم هذا الحدث جزئيّاً من قبل منظّمة الهنتشاك9. ووفقاً للسفير البريطانيّ في اسطنبول فيليب كوري، فإنّ المتظاهرين “كانوا مسلّحين بمسدّسات وسكاكين من نمط موحّد” ممّا يعني أنّ المنظّمين وزّعوا الأسلحة10. وحمل المتظاهرون، الّذين وصفوا في أحد التقارير بأنّهم “معظمهم من شباب الطبقة الوسطى”، عريضة تنتقد “الوضع الحاليّ في بلدنا”. واحتجّ الالتماس على “الاضطهاد المنهجيّ… بهدف واحد هو التسبّب في اختفاء الأرمن من بلدهم”، و”اعتقالات سياسيّة لا حصر لها”، و”تعذيب همجيّ ولا إنسانيّ”، و”ابتزازات جائرة من المسؤولين وجامعيّ الضرائب”. مستشهدين ب “مذبحة ساسون”. وطالب الأرمن من خلال هذه المظاهرة بالإصلاح في المحافظات الشرقيّة والحدّ من” اللصوصيّة الكرديّة”11.
جاء الردّ التركيّ على المظاهرة بالتأجيج ضدّهم في المناطق ذات الأعداد الكبيرة من الأرمن؛ ممّا أدّى إلى مجازر عديدة ضدّهم، والّتي راح ضحيّتها كثير من السريان أيضاً الناطقون باللغة الأرمنيّة. تعرّض أرمن أورفا لمجزرتين: واحدة في تشرين الأوّل 1895، والأخرى، أكبر بكثير، في كانون الأوّل من نفس العام. 12قبل المذابح، كانت أورفا موطناً لحوالي 20,000 أرمنيّ. وعلى مدار يومين، قتل ما يقرب من 8000، وربّما ما يصل العدد إلى 10000 بينهم من 2500-3000 شخص قتل حرقاً في الكاتدرائيّة. كما قتل أربعون سريانيّاً، وروم كاثوليكيّاً واحداً.13 بين تشرين وكانون الأوّل، تحوّل مئات المسيحيّين إلى الإسلام. وفي الأسابيع الّتي تلت مذبحة كانون الأوّل، اعتنق 600 شخص آخر الإسلام “على أمل إنقاذ حياتهم”.14 لكنّ معظمهم عادوا مع مرور الوقت إلى المسيحيّة، وبعضهم عادوا إلى المسيحيّة بعد مغادرة أورفا. في أيلول 1896، كتب نائب القنصل البريطانيّ هنري جيرالد فيتزموريس أنّ مئتي مسيحيّ من اعتنقوا الإسلام ظلّوا في المدينة.15
بحلول أيّار 1917، أعيد توطين حوالي 6000 من المرحلين الأرمن في أورفا. لقد عملوا “في وئام تامّ مع الشخصيّات الشرسة الّتي قتلت قبل عام واحد فقط 14000 مسيحيّ بوحشيّة16“. وفي أوائل عام 1922، كان لا يزال هناك 4000-5000 مسيحيّ في أورفا17.
وبحسب ما أوردناه أعلاه، تعرّض السريان المتّبقون في أورفا البالغ عددهم تقريباً 4,500 خلال الفترة من كانون الأوّل إلى شباط 1924 لنوبة جديدة من الاضطهاد بعد أن أخبرتهم السلطات المحلّيّة أنّ “جميع المسيحيّين يجب أن يغادروا تركيّا في نهاية المطاف” لذلك كان هناك تحرّش وسرقة وقتل أو اعتقال عدد قليل من السريان البارزين، وأولئك الّذين غادروا أورفا في البداية منعوا من أخذ أيّ شيء معهم، ومنعوا من “بيع أراضيهم”، فقد غادروا مع حصص يومين وبطّانيّة واحدة”.18 ولكن بعد أن أصبح من الواضح أنّ السريان كانوا يغادرون، “خفّف” الأتراك من قسوة الأوامر، وسمحوا لهم بأخذ بعض الممتلكات، بما في ذلك المال. وطلب من الكثيرين التوقيع على بيانات تفيد بأنّهم لم يجبروا على الخروج. وقاد الحملة محلّيّاً عربيّاً يدعى عجمي باشا، وهو صديق لمصطفى كمال، الّذي سبق أن حصل على منازل وأراضي أرمن مرحلين19.
في 9 آذار، كتب اللواء عصمت باشا، أحد مساعدي مصطفى كمال، أنّ التقارير عن الهجمات على المسيحيّين وتدنيس كنائسهم لا أساس لها من الصحّة، لكنّ “الترحيل القسريّ ل 4000 مسيحيّ من أورفا إلى حلب قد بدأ بالفعل”.20 وبعد أيّام، أفاد الأمريكيّون بأنّ 1,250 من سريان أورفا و750 من الأرمن قد وصلوا إلى حلب21.
هناك 15,000-20,000 سريانيّ في تركيّا الحاليّة، معظمهم يعيشون في إسطنبول، مع حوالي 2,000 في شرق الأناضول.22 وهم ما تبقّى من مجتمع كان يضمّ أكثر من نصف مليون نسمة كانوا يسكنون الإمبراطوريّة العثمانيّة قبل الحرب العالميّة الأولى، وقد ذبح جميعهم تقريباً، أو طردوا بين عامي 1914 و1924. وقتل نحو 250 ألفاً، وربّما أكثر، على أيدي المسلمين الأتراك والأكراد بين عامي 1914 و1919، معظمهم في مذابح جماعيّة، وبعضهم في معارك.23
وفقاً لأرشيف كنيسة حلب السريانيّة الأرثوذكسيّة المدرّج أدناه، كانت حصّة سريان أورفا في مجازر عام 1915 صغيرة نسبيّاً مقارنة بالمناطق الأخرى، حيث بلغ عدد القتلى حوالي 340 فرداً، يشكّلون 50 عائلة. يبدو أنّ السبب الرئيسيّ لقلّة عدد جرائم القتل بحقّ سريان أورفا هو رفض حاكم أورفا المتصرّف حيدر بك لتنفيذ أوامر من وزارة الداخليّة في إسطنبول. نظراً لأنّ مسيحيّي أورفا كانوا يشكّلون 10-15% فقط من سكّان أورفا في ذلك الوقت، وكان نصفهم من الأرمن، فلم ينظر إليهم على أنّهم يشكّلون تهديداً للدولة. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك المئات من الرعايا الإنجليز والفرنسيّين والأجانب يقيمون مع عائلات مسيحيّة. ومع ذلك، عندما وصل في نهاية المطاف حوالي 6000 جنديّ من الجيش العثمانيّ إلى أورفا في تشرين الأوّل من عام 1915، قصفوا حيّ الأرمن ممّا أسفر عن مقتل الآلاف منهم وترحيل الناجين منهم إلى مدينة الرقّة.24
قائمة خسائر شعبنا [السريان الأرثوذكس] في بلاد ما بين النهرين خلال الحرب العالمية الأولى 25
العدد الإجماليّ للقتلى في الجدول أعلاه يتطابق مع العدد الإجماليّ الّذي ذكره المطران أفرام برصوم في شباط 1920 في رسالته الموجّهة إلى رئيس الوزراء البريطانيّ للويد جورج والمصحوبة بمذكّرة موجّهة إلى مؤتمر باريس للسلام، يقدّر نيافته العدد الإجماليّ للسكّان المدنيّين السريان الّذين قتلوا في عام 1915 ب 90,000 من اليعاقبة (السريان الأرثوذوكس والكاثوليك) و90,000 من النساطرة (كنيسة المشرق) والكلدان (كنيسة المشرق سابقاً قبل تبنّيها للكاثوليكيّة). للتأكّد انظر أدناه الرسالة المرفقة في الثامن من آذار 1920 والمذكّرة المؤرّخة في شباط 1920. سيلاحظ القارئ من خلال الرسالة والمذكّرة المرفقة أدناه كيف يتناوب المطران أفرام باستخدام كلمتي “السريان” و ” الآشوريّين” كإسميّين باللغة الإنكليزيّة لشعب واحد يشمل بها كافّة الطوائف المحافظة على الطقس السريانيّ.
المصدر: أرشيف المكتبة البريطانية، لندن، إنجلترا
ليس لدينا مجال في هذا الفصل الصغير لاستعراض جميع المجازر الّتي ارتكبت ضدّ سريان شمال بلاد ما بين النهرين في أواخر الفترة العثمانيّة من 1894 إلى 1924، ولكن هناك العديد من الدراسات المنشورة الّتي وثقت هذه المجازر بالتفصيل. فيما يلي قائمة بالترتيب الأبجديّ لخمسة من أهمّها:
1. David Gaunt, Massacres, Resistance, Protectors: Muslim-Christian Relations in Eastern Anatolia during World War I. Gorgias Press, 2006.
2. شاهد عيان، القصارة في نكبات النصارى (مجازر 1895 و1914-1919)
3. Benny Morris and Dror Ze’evi, The Thirty Year Genocide: Turkey’s Destruction of Its Christian Minorities, 1894–1924. Cambridge, Massachusetts (Harvard University Press, 2019), Pages 373-380.
4. Abed Mshiho Neman of Qarabash, Sayfo: An Account of the Assyrian Genocide [1918], Translated by Michael Abdalla, Łukasz Kiczko, Edinburgh University Press, 2021.
5. Hannibal Travis, Genocide in the Middle East: The Ottoman Empire, Iraq, and Sudan. Durham, N.C.: Carolina Academic Press, 2010. Chapter VII, Pages 237-279.
وصول السريان الأورفلليين إلى حلب
في حين وصول السريان الأورفلليّين إلى البوّابة الشماليّة لحلب، كان المسيحيّون من مختلف الطوائف يشكّلون ثلث سكّان حلب، أمّا الباقون فكانوا من المسلمين السنة.26
استأجر السريان غرفاً في عدّة خانات، وانتشروا في عدّة أحياء، مثل قصطل مشط، وقسطل حراميّ، وباب النصر، والجديدة. بلا شكّ كان وضعهم كارثيّاً وهم قد أصبحوا في مدينة لا يتكلّمون لغتها العربيّة. ومن المعقول الافتراض أنّهم استنزفوا مدّخراتهم في غضون فترة قصيرة، ولذلك فكّروا في إيجاد حلّ جماعيّ ميسور التكلفة لمعيشتهم. وبعد عام واحد، وبجهود المطران أفرام برصوم وسلطة الانتداب الفرنسيّ، تمّ شراء قطعة أرض من المستثمر العقاريّ الإيطاليّ ماركو بوليّ على سفوح تلّ نائي على بعد ثلاث كيلومترات إلى الشمال من الجدران الخارجيّة لمدينة لحلب، وقسّمت إلى قطع صغيرة خيّم عليها السريان لسنوات، ثمّ بدأوا في بناء المنازل عليها مع تحسّن أوضاعهم الماليّة.
جانب من مخيم السريان، 1925
تمّت الإشارة إلى هذه المستوطنة الجديدة في البداية باسم مخيّم السريان، وبعد فترة أصبحت برّاكات السريان؛ ومن ثمّ حيّ السريان. عندما وصل التوسّع العمرانيّ إلى حيّ السريان واجتاحه، أصبح الحيّ محاطاً تدريجيّاً بالمسلمين السنّة من جميع الجهات وبمستوطنة كرديّة غير مرخّصة على قمّة التلّ على الجانب الشماليّ المحاذي للكنيسة. مع مرور الزمن تحوّلت كنيسة السريان إلى مجمّع أبنية تعكس شعوراً باطنيّاً لشعب محاصر داخل حدود جمعيّات كنيستهم، والّتي بدورها أحاطوها بأبنية داعمة لا يمكن الوصول إليها إلّا من فناء من داخل مجمّع سور يشبه قلعة صغيرة في وسط مزدحم من الأبنية.
الشروع في بناء الكنيسة، 1932
في حين حاولت حفنة من شباب السريان في الخمسينيّات والستّينيّات من القرن العشرين المشاركة في الحركة القوميّة السوريّة الّتي حدّدت الهلال الخصيب كوطن مشترك لسكّانها وعدد قليل جدّاً من الآخرين انضمّوا إلى حزب البعث، أو إلى الأحزاب الشيوعيّة المتفرّعة، حافظت الغالبيّة العظمى على مسافة كبيرة من الأحزاب السياسيّة سواء المعترف بها رسميّاً أو السرّيّة منها.
ما هو لافت للأنظار أنّ الحجم الأكبر من النشاط الثقافيّ للسريان الأورفلليّين هو موسيقيّ. وكامل الإنتاج الموسيقيّ للسريان الأورفلليين يكاد يكون ليتورجيا حصريّاً أو متأثّراً بالليتورجيا، مثل بعض المؤلّفات الموسيقيّة للموسيقار نوري إسكندر، الّذي قاد لعقود جوقة كنيسة مار جرجس في حيّ السريان، وحول ليتورجيا أورفا إلى نوتات موسيقيّة. يمكن إبداء ملاحظة مماثلة حول المحاولات السابقة لتأليف الموسيقى الشعبيّة من قبل فرقة يلدا على سبيل المثال. في محادثة غير رسميّة بعد ثلاثة عقود من إيقاف نشاطها الموسيقيّ مع المغنّي الرئيسيّ للفرقة، نديم أطمّه جه، وهو من كبار الشمامسة السريان، قال للمؤلّف: “كنت أؤلّف الأغاني وأغنّيها بطريقة تجعل المرء عندما يستمع إليها، يتعرّف عليها على أنّها أسلوب سريانيّ مميّز”. هذه الظاهرة ليست فريدة من نوعها فقط مع السريان الأورفلليين. كان الراحل منير بشير، أبرز عازف عود معاصر في الشرق الأدنى، شمّاساً للكنيسة السريانيّة في شبابه في مدينة الموصل. كما ألمح في مقدّمة ألبومه المزدوج بعنوان “بلاد ما بين النهرين” إلى التأثّر بالليتورجيا السريانيّة في ارتجالاته للتقاسيم وبعض مقامات الشرق الأدنى.27 وسبب غلبة الطابع الدينيّ على الموسيقا السريانيّة هي أنّ السريان وهم تحت تأثير ثقافتهم الدينيّة اعتبروا لغتهم مقدّسة لذلك عليها ألّا تستخدم للمرح في أغاني ليست لها طابعاً دينيّاً.
الحرب في سوريا ومصير السريان
بعد مرور مئة عام على طرد السريان من أورفا ونزوحهم إلى حلب، لا يزال ما يقارب من 30% منهم صامدين في ديارهم في حيّ السريان، ولم يفرّوا من الحرب المسعورة القائمة في سوريا منذ عام 2011 بعد أن تحوّلت مظاهرات الربيع العربيّ المطالبة بإسقاط النظام إلى حرب إقليميّة. اقتلع على أثر هذه الحرب معظم السريان مرّة أخرى من محطّة ثانية من وطنهم السوريّ الكبير، ولا يزال يعاني الصامدون منهم من حصار اقتصاديّ مع سائر السوريّين في المناطق الحكوميّة يهدف لإفقارهم وتجويعهم لإثارة القلاقل وتقويض الوضع السياسيّ بأمل إشعال ثورة أخرى تحقّق ما فشلت الأولى من تحقيقه.
ولكنّ هذه المرّة لم يكن الاستهداف مباشراً للسريان أو للمسيحيّين بشكل عامّ. بل عانوا بشكل غير مباشر مع باقي السوريّين نتائج حرب معقّدة ذات أبعاد دينيّة داخليّة بين الطوائف الإسلاميّة وأطماع جيوسياسيّة إقليميّة ومساعي أمريكيّة لإعادة تشكيل الهلال الخصيب بشكل يضمن أمن وهيمنة دولة إسرائيل القوميّة-الدينيّة على مراكز القوى في الشرق الأوسط، والّتي حاولنا تفسيرها بالتفصيل، وفي سياقها التاريخيّ في كتابنا بعنوان: الجذور الدينيّة للصراع السوريّ: إعادة تشكيل الهلال الخصيب.28
بدورها قالت القوى المساندة للتمرّد المسلّح للسوريّين، الّذي تلى قمع الدولة للمظاهرات، بأنّها تريد إسقاط النظام الدكتاتوريّ واستبداله بنظام ديمقراطيّ دستوريّ. هكذا بصراحة وببساطة، في زمن لم تنتج فيه مجتمعات العالم العربيّ نظاماً واحداً ديمقراطيّاً دستوريّاً فعليّاً من المحيط إلى الخليج، وكأنّ التمرّد المسلّح كاف بحدّ ذاته لإنتاج نظام ديمقراطيّ قائم على احترام حرّيّات فرديّة دستوريّة. وبعد قمع الحكومة للاحتجاجات والمواجهات مع المتمردين، أطلقت القوى العربيّة والإقليميّة والأميركيّة العنان للوحوش الإخوانيّة وتفريخاتها السلفيّة الجهاديّة من داعش والنصرة، وفتحت لها أبواب التمويل والتسليح العربيّ إلى أن حزّت سكاكين وحوش داعش رقبتين أميركيّتين على مرأى من الجميع اعتقاداً من قادتها الأغبياء بأنّها أصبحت قوّة ضاربة مستقلّة تريد إعادة “الخلافة الإسلاميّة على نمط النبوّة” وبشكل لم يعد محتملاً إعلاميّاً لاستمرار تسويقها كقوى ديمقراطيّة تائقة للحرّيّة والكرامة. فقرّرت الجهات المسيطرة على السياسة الخارجيّة الأمريكيّة بتنفيذ مشروع إعادة تشكيل الهلال الخصيب بنفسها وبالاعتماد على قوى محلّيّة كرديّة كانت توصفها للتوّ بالإرهابيّة.
من الواجب التنويه هنا بأنّ مؤلّف هذا البحث غير مختصّ بالقضيّة الكرديّة أو بتاريخ حزب العمّال الكردستانيّ. فتهمة الإرهاب هي أميركيّة وتركيّة. إنّ معلومات المؤلّف عن هذا الحزب هي من خلال احتكاك عابر لأفراد ادعوا الانتماء إليه في بداية الثمانينيّات، وكان خطابهم آنذاك قوميّاً انفصاليّاً من جهة وماركسيّ من جهة أخرى. ومن الجدير بالذكر أنّه كانت لديهم أيضاً مجموعة مقاتلة صغيرة ساهمت بالقتال مع المقاومة المسلّحة ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ لجنوب لبنان.
هكذا إذن بين ليلة وضحّاها تحوّل حزب العمّال الكردستانيّ المصنّف أميركيّاً بالإرهابيّ إلى حزب سوريّ ديمقراطيّ. ثمّ أضاف مختصي العلاقات العامّة الأمريكيّون اسم “قوّات سوريا الديمقراطيّة” باللغتين السريانيّة والعربيّة على علم القوّات الجديدة إلى جانب اللغة الكرديّة، برهاناً إعلاميّاً على ديمقراطيّة الحزب وبعده عن الفكر القوميّ الكرديّ المعروف به سابقاً وأصلاً. وبعد ذلك سال لعاب العثمانيّ الجديد للفرصة المتاحة بقضم أراضي سورية جديدة وبأيادي سوريّين من الّذين اكتشفوا مؤخّراً أصولهم التركيّة، بحجّة تهديد الأكراد لأمن تركيّا القوميّ ليزيد من الصراع تعقيداً.
لم يكن من المستغرب أن ينقسم التمثيل السياسيّ الصوريّ لسريان سوريا خلال هذه الحرب إلى ثلاثة فرقاء، كلّ منهم يعكس بدوره القوّة العسكريّة المسيطرة على أرض الواقع، بين قوّات حكوميّة سوريّة، أو تركيّة، أو كرديّة، هذا إذا استثنينا فريقي السريان في لبنان المصطفّين مع أو ضدّ ميليشيات القوّات اللبنانيّة أو حزب اللّه، لتبرهن كالعادة أنّ السريان ليسوا قوّة فاعلة ومستقلّة بأيّ شكل من الأشكال، بل ضعيفة وتابعة، تحاول المناورة السياسيّة لتنقذ ما تبقّى منهم من شرّ القتل والتنكيل وتفادي ما أصاب السريان من مجازر في القرن الماضي. وليس سرّاً أنّ مسيحيّي سوريا بشكل عامّ والسريان بشكل خاص ليست لهم لا ناقة ولا جمل في صراع مسلّح مع الدولة السوريّة، ويتوقون للعودة إلى ما كانت عليه الأمور قبل اندلاع الحرب، ولكن مع إصلاحات طفيفة وتدريجيّة ترقّى بالمواطن إلى مستوى حضاريّ أعلى، وذلك بالاستجداء من الدولة القليل من الحرّيّات الفرديّة والاجتماعيّة والثقافيّة وإصلاحات باعتقادهم لن يحصلوا عليها عمليّاً تحت ظلّ أيّ من القوى المحاربة للقوى الحكوميّة.
ولكن للحرب أحكام ومشاكل أمنيّة تجبر قادة المجتمع على الانخراط بمفاوضات حتّى مع مجرمين وحثالة الناس، والّتي كانت إحدى ضحاياها خطف مطراني حلب يوحنّا إبراهيم وبولس يازجي وقتل سائق المطران يوحنّا، السيّد فتح اللّه كبّود.
استناداً إلى مقابلة المؤلّف مع الشاهد العيان الوحيد على عمليّة الخطف الأستاذ فؤاد إيليا في الذكرى العاشرة لحادث الخطف، ففي صباح 22 نيسان، 2013 ذهب المطران يوحنّاً إلى منطقة المعارضة في شمال غرب حلب برفقة الأستاذ فؤاد إيليا ليفاوض، ولكن من دون نجاح، مجموعة متمرّدين على إخلاء سبيل الكاهن ماهر محفوظ والكاهن ميشيل كيال. وقبل عودته إلى حلب تكلّم هاتفيّاً مع المطران بولس يازجي الموجود في أنطاكيا، وعرض عليه العودة إلى حلب معاً. ولكن اختطف المطرانين بدورهم في طريق العودة إلى حلب بعد اجتيازهم لحاجز “الجيش الحرّ” في ساحة في منطقة المنصورة الصناعيّة من قبل ما بدا من أشكالهم بأربعة مسلّحين أجانب، وعادوا بهم إلى منطقة المعارضة. وبعد عمليّة الخطف شوهد السيّد فتح اللّه مقتولاً وملقى أمام جامع في منطقة المنصورة.29
منذ اختطافهما لم يسمع عن مصير المطرانين سوى شائعات ونظريّات تتّهم جهات عديدة بجريمة الاختطاف بما فيها جهات مخابراتيّة تابعة لدول إقليميّة أو دوليّة. إحدى هذه النظريّات تروي أنّ قسّيسين أو راهبين يفترض البعض بأنّهما المطرانين كانوا قد ذبحوا على يد الجهاديّ الشيشانيّ ماغحمود زاكيروفيتش عبد الرحمانوف الملقّب “بأبي البنات” بعد فترة وجيزة من اختطافهما.30
لم يخف المطران يوحنّا قلقه منذ عقود على مصير السريان في وطنهم الأصليّ، وكان يقول للمؤلّف منذ الثمانينيّات بأنّ “هناك خطّة تحاك لاستئصال السريان من منطقة الجزيرة الشماليّة وتوطين الأكراد بديارهم”، ولم يشجّع على هجرة السريان إلى الغرب. وبعد اندلاع الحرب في 2011 كان يقول بين تجمّعات السريان في حلب وبحضور المؤلّف “لا خوف علينا هنا.” وكان قد صرّح لهيئة الإذاعة البريطانيّة قبل أيّام من اختطافه” أنّ المسيحيّين غير مستهدفين مثلما هو الحال في العراق، فالجميع – حكومة ومعارضة – أكّدوا له خلال لقاءاته بهم، على احترامهم ومحبّتهم للمسيحيّين، كما حثوه على تشجيع المسيحيّين للبقاء في سوريا وعدم الهجرة منه.”31
وأضاف بأنّ “محكّ المواطنة يكون في وقت الشدّة والحلّ ليس في ترك البلاد”، وأنّ” ما يحدث هو تعرّضهم لهجمات عشوائية.”32 وأكّد بتصريح آخر بأنّ “الوضع في سوريا يختلف عن الوضع في العراق، ولا يرتبط بقاء المسيحيّين في سوريا ببقاء نظام الرئيس بشّار الأسد.”33 بهذه التصريحات حاول المطران يوحنّا أن يوحي للمعارضة المسلّحة بأنّ المسيحيّين بشكل عامّ والسريان على نحو خاصّ هم على الحياد من هذه الحرب، عسى ولعلّ لا تمعن بهم المعارضة المسلّحة قتلاً وسلباً وتشريداً وهم في طريقهم إلى السيطرة الكاملة على الأرض.
كان يردّد نيافته للمؤلّف في فرص عديدة منذ عقدين قبل اندلاع الحرب السوريّة بأنّ السريان ذبحوا في المجازر العثمانيّة “لأنّهم لم يفهموا اللعبة السياسيّة”. بالفعل فقد اعتبر الأتراك المسيحيّين، ومنهم السريان كما اعتبروا الأرمن بطابور خامس لا يمكن الوثوق بهم وخاصّة بعد أن طالب الأرمن بحقوق متساوية كما وردنا أعلاه، وهذه مطالب إصلاحيّة لا يمكن لدولة الخلافة منحها؛ لأنّها تطعن في الأصول الدينيّة للشريعة الّتي تفرّق بقوانينها بشكل واضح بين “مؤمنين” و”كفّار”.34
صورة التقطت قبل ساعات من عملية اختطاف المطرانين. من اليمين: فؤاد ايلليا، معارض سرياني من أصول فكرية شيوعية سابقا، المطران بولص يازجي، المحامي عبد الرحمن علاف: رئيس مجلس القضاء الأعلى الحر المعارض، المطران يوحنا إبراهيم، ابن عبد الرحمن علاف.
ولكن إلى حين اختطاف المطران كانت المعارضة المسلّحة تتحوّل باتّجاه تنظيم القاعدة أفراداً ومجموعات. فكان التنظيم أفضل تمويلاً وأكثر انضباطاً وأكثر وضوحاً بهدفه “لنصرة أهل السنّة” منذ دخوله إلى سوريا من العراق، ولم يستخدم مصطلحات غربيّة مستوردة ومبهمة “كالحرّيّة والديمقراطيّة”. هذا ناهيك عن الجهاديّين العاملين تحت إمرة الاستخبارات التركيّة منذ بداية تسليح المعارضة كالشيشانيّين المتّهمين باختطافهم المطرانين. أي أنّ المعارضة المسلّحة المعروفة بالجيش الحرّ لم تعد الحاكمة على الأرض حين مرور المطرانين عند حواجزهم؛ لأنّ الخاطفين اجتازوها ولم يتمكّنوا من اعتراضهم لمناصرة المطرانين. والسؤال الّذي لا نعرف إجابته هو كيف علم الخاطفون الأجانب عن وجود المطرانين في المنطقة في تلك الساعة.
حتّى الآن وبعد 11 سنة من الحرب المستمرّة في سوريا ليست هناك معالم واضحة عن شكل التسوية السياسيّة الّتي سيتّفق عليها أطراف الصراع المحلّيّة والإقليميّة والدوليّة، والّتي ستنعكس على وضع السريان والمسيحيّين بشكل عامّ في سوريا ومستقبل وجودهم على أرض وطنهم. فالصراع مازال قائماً والمصالح متضاربة. إسرائيل تريد تفتيت المنطقة برمّتها إلى دويلات صغيرة دينيّة طائفيّة على شاكلتها، وعلى أقلّ تقدير تريد إنشاء دولة كرديّة في شرق الفرات حليفة لها ومعادية لإيران، ولكنّ هذا المسعى مرتبط بمدى سيطرتها على القرار السياسيّ والعسكريّ في الولايات المتّحدة لتحقيق هذا الهدف. تركيا المعاصرة الناشرة للفكر الجهادي35، تريد بدورها قضم ما تيسّر لها من الشمال السوريّ بعد أن بدّد التدخّل العسكريّ الروسيّ حلمها بإعادة إحياء الخلافة العثمانيّة. وإيران تريد المحافظة على سوريا كما كانت طالما أنّها لا تنخرط بموجة التطبيع مع إسرائيل، ولكنّ إيران قابلة للتخلّي عن أجزاء من الشمال لتركيّا وبتغيير ديموغرافيّ فيها تبتغيه تركيّا وإيران لعرقلة مشروع إقامة دولة كرديّة تهدّد أمن كلاهما. وروسيا تحاول إعادة بسط سيطرة الدولة السوريّة على كامل حدودها الدوليّة والإبقاء على نظام حكم يؤمّن لها استمرار وجود قواعدها العسكريّة على الشاطئ السوريّ.
وأخيراً، وللأسف آخراً، كشفت الحرب هشاشة ما يسمّى “بالشعب العربيّ السوريّ” والدولة السوريّة وزيف الادّعاء بالقوميّة العربيّة. فالشعب المتحرّر من قبضة نظام الدولة الأمنيّة رفع الأعلام التركيّة والكرديّة والدرزيّة، والسنّيّة (الممثّل بالجيش الحرّ)، والقاعديّة، والداعشيّة. وانهارت المنظومة الأمنيّة في المناطق الحدوديّة بظرف أسابيع من الحراك الشعبيّ، ودخلت جحافل الجهاديّين من جميع النقاط الحدوديّة وبتسهيل من الدول المجاورة الراعية لها.
أين هم السريان من كلّ هذا وما هو مصير استمراريّتهم في وطنهم؟ بالنسبة للباقين منهم في سوريا، فإنّ عددهم صغير إلى حدّ أنّه لن يكونوا مؤثّرين سياسيّاً حتّى إذا تحوّلت سوريا بمعجزة إلى نظام ديمقراطيّ تعدّديّ دستوريّ يحترم الحرّيّات الفرديّة. فأكثر ما يمكن الحصول عليه هو الأمن والحدّ الأدنى من حقوق المواطنة بعيداً عن سياسات الإذلال المتعمّد الّتي مورست بحقّهم كسكّان سوريا الأصليّين في الماضي الغابر والقريب، لأنّه اعتماداً على فتاوى علماء الشريعة المستمدّة من التراث الدينيّ فأحكام الشرعيّة تزعم أنّ “الكافر ليس أهلاً للإكرام، بل يهان”36 . إذن إهانة الكافر هو واجب دينيّ مفروض شرعاً. النتيجة من هذا التوصيف، فإنّ مشكلة الباقين في سوريا هي مشكلة ديانتهم وليست سريانيّتهم، وهذا يجمعهم مع باقي الطوائف غير المنتمية إلى الطائفة السنّيّة الغالبة عدداً، والّتي تحدّد من هو المؤمن، ومن هو الكافر أو المرتدّ وكيفيّة التعامل معهم استناداً إلى التراث الدينيّ السائد. أقول هنا “التراث الدينيّ السائد” لأنّه ليس بالضرورة أن يستمرّ هذا التراث بشكل لا نهائيّ بطبيعته الوهّابيّة-الإخوانيّة-الأصوليّة، فمن الممكن أن يتبنّى المبادئ الصوفيّة غير الأصوليّة الّتي تترك شؤون الثواب والعقاب لإدارة الإله في الآخرة، وليس لإدارة الإنسان على الأرض كما هو الحال في الشمال الأوروبّيّ الّذي حيد سيطرة المؤسّسات الدينيّة على الحياة المدنيّة بعد عصري العقل والتنوير. وإلى ذلك الحين الافتراضيّ فالمسيحيّون محكومون بالحدّ الأدنى من العهدة العمريّة، والّتي على سبيل المثال لا تسمح ببناء كنائس جديدة، والّتي نسيها أو تناساها بعض الإخوة الروم، وبنوا كنيسة آيا صوفيا في بلدة السقيلبيّة في قضاء حماة، فجاء استهدافها بمسيرة متفجّرة في يوم تدشينها 24 تمّوز 2022.37
أمّا بالنسبة إلى سريان الشتات، فمن غير المحتمل أن يعود المهاجرون إلى سوريا بعد أكثر من عشر سنوات من الاستقرار في المهجر حتّى ولو استتبّ الأمن، وانتهى الحصار الاقتصاديّ. فسوف يندمج السريان داخل البلدان المضيفة لهم بعد أن أصبح معظمهم من مواطنيها، وحصلوا على حرّيّات فرديّة لم تكن متاحة لهم في وطنهم، ولكن ما هي عدد الأجيال الّتي ستحافظ على الهويّة السريانيّة؟
المشكلة الرئيسيّة لاستمرار الهويّة السريانيّة هي كيفيّة ترجمة كلمة السريانيّة إلى اللغات الأجنبيّة. على سبيل المثال، دعونا نفكّر في اللغة الإنجليزيّة. عندما يترجم اسمها إلى سوري، وهي طبعاً ترجمة صحيحة ودقيقة، إلّا أنّ الهويّة السوريّة في الوقت الحاضر أصبحت مرادفة للهويّة العربيّة الإسلاميّة، وهذا ما يطمس الهويّة السريانيّة المختلفة عن العربيّة وغير المسلمة. لذلك نجد بعض السريان يتبنّى الهويّة الآراميّة، وهذا بدوره من الناحية اللغويّة والتاريخيّة يتصادم مع الأصل الآشوريّ لكلمة سريانيّ وسوريّ.38 لحلّ هذا الإشكال تبنّت الكنيسة مؤخّراً اسم لغتها “سيرياك” كاسم لها بالإنكليزيّة، بعد أن كانت تتبنّى الاسم الآشوريّ “آسسيريان” في العشرينيّات من القرن الماضي قبل أن تتبنّى الاسم السوريّ “سيريان” في الستّينيّات. إذا تفحّصنا هذه الظاهرة طوال القرن العشرين، سنلاحظ كيف تمّ التعامل مع ترجمة كلمة السريانيّة إلى الإنجليزيّة. أدناه، يمكن للقارئ أن يرى مثالاً من خلال المنشورات ولافتات الشوارع في القدس وبيت لحم على كيفيّة تحوّل الاسم السريانيّ من الآشوريّة إلى السوريّة إلى السريانيّة وأيضاً تمّ تحويل الرمز الآشوريّ إلى الآراميّ.
سيرتبط استمرار الهويّة السريانيّة في الشتات بكيفيّة إدارة السريان لمؤسّساتهم الدينيّة والثقافيّة الّتي أنتجت تاريخيّاً هويّات متعدّدة. لذلك، لن تظهر هويّة اجتماعيّة موحّدة للسريان دون تعزيز البنية التحتيّة الاجتماعيّة الّتي من شأنها القضاء على عقليّة “نحن ضدّهم” بين الطوائف السريانيّة العديدة.
ساهمت المكوّنات الآراميّة والسوريّة والكلدانيّة والأكّاديّة والبابليّة في إرث الشعب السريانيّ. لا يمكن إثبات حصريّتهم لأيّ من هذه الهويّات أو نفيها. قد يطوّرون جسوراً لدمج جمعياتهم، لتوليد هويّة مشتركة أو اختيار تحجّر تجزؤهم داخل هويّاتهم الطائفيّة والإقليميّة. إنّ الاستمرار في المسار الأخير يهدّد وجود هويتهم في كلّ من وطنهم، وفي الشتات .
المراجع
شاهد عيان، القصارة في نكبات النصارى [1895، 1914-1919]
Abed Mshiho Neman of Qarabash, Sayfo: An Account of the Assyrian Genocide
[1918], Translated by Michael Abdalla, Łukasz Kiczko, Edinburgh University Press, 2021.
Bachir, Munir. Mesopotamia. Le Chant du Monde and Saad Bachir, 2003.
Beth-Nahrin (Mesopotamia), The Assyrian Paper, Yıl: 8, No. 13-14, 1-15 Temmuz 1924. Published every two weeks by Naoum E. Palak, USA.
Buckingham, J. S. Travels in Mesopotamia, London, 1827.
Eye Wittness, al-Quasara fi Nakabat al-Nasara [Arabic], [1895, 1914-1919].
Gaunt, David. Massacres, Resistance, Protectors: Muslim-Christian Relations in Eastern Anatolia during World War I. Gorgias Press, 2006.
Harrak, Amir, “The Ancient Name of Urfa”, Journal of Near Eastern Studies 51
(1992): 209–14.
Karimova, Nigar, and Edward Deverell. “Minorities in Turkey.” Occasional Papers no. 19, Swedish Institute of International Affairs, Stockholm, February 2001.
Morris, Benny and Ze’evi, Dror, The Thirty-Year Genocide: Turkey’s Destruction of Its Christian Minorities, 1894–1924. Cambridge, Massachusetts (Harvard University Press, 2019).
Sauvaget, J. ‘Halab’. Encyclopaedia of Islam, Second Edition. Boston: Brill, 2010. Brill Online. Harvard University.
Thomsen, Jenny. “The Assyrians / Syriacs of Turkey: A Forgotten People” (B.A. thesis, Malmö University, 2008).
Toynbee, Arnold. The Western Question in Greece and Turkey: A Study in the Contact of Civilizations, 2nd ed. London: Constable, 1923. Reprint, New York: Howard Fertig, 1970.
Travis, Hannibal. ‘“Native Christians Massacred”: The Ottoman Genocide of the Assyrians during World War I’. Genocide Studies and Prevention 1 (2006): 327–71.
Travis, Hannibal. ‘The Assyrian Genocide: A Tale of Oblivion and Denial’, in Forgotten Genocides Oblivion, Denial, and Memory, ed. René Lemarchand. University of Pennsylvania Press, 2011.
Travis, Hannibal. Genocide in the Middle East: The Ottoman Empire, Iraq, and Sudan. Durham, N.C.: Carolina Academic Press, 2010.
الأرشيفات الوطنية والجامعية
Buhrman, Paul, US consul, Aleppo, to Secretary of State, 13 February 1924, and
Paul Buhrman to Secretary of State, 11 March 1924, both in United States National Archives, Record Group 59, 867.4016, Roll 48.
Cambon, Paul [French Ambassador to Istanbul] to Foreign Office, 30 September
1895, Ministère des Affaires Etrangères (Ministry of Foreign Affairs), La Courneuve, Paris, Turquie: Nouvelle Serie.
Currie, Philip [British Ambassador to Istanbul] to Lord Salisbury [Prime Minister
of the United Kingdom 1895-1902], 1 October 1895, Turkey No. 2 (1896), Correspondence Relative to the Armenian Question and Reports from Her Majesty’s Consular Officers in Asiatic Turkey (HMSO 1896), 30–35.
Currie, Philip [British Ambassador to Istanbul] to Lord Salisbury [Prime Minister
of the United Kingdom 1895-1902], 1 October 1895, UK Blue Books, Turkey No. 2 (1896), 22; “Inclosure 2 in No. 50. Petition,” 30 September 1895, Turkey No. 2 (1896), 32–35.
Davies, R. D. T. to R. E. Wood, commercial secretary, United Kingdom, High
Commission, Constantinople, 23 September 1924, United Kingdom National Archives, Foreign Office 371/10229.
Fitzmaurice, Gerald Henry (Urfa) to Sir Philip Currie, 10 September 1896, United
Kingdom National Archives, Foreign Office: Embassy and Consulates, Turkey, General Correspondence 195/1930.
Fitzmaurice, Gerald Henry to Sir Philip Currie, “Constantinople— Ourfa”, March
16, 1896, Houghton Library, Harvard University, American Board of Commissioners for Foreign Missions 16.10.1, Vol. 12. See also, Barnham to Currie, 6 January 1896, United Kingdom National Archives, London, Foreign Office: Embassy and Consulates, Turkey, General Correspondence 195 / 1932.
Houghton Library, Harvard University, American Board of Commissioners for
Foreign Missions 16.10.1, Vol. 5.
Internal report, 9 March 1924, Başbakanlık Osmanlı Arşivi (Prime Ministry’s
Ottoman Archives), Foreign Ministry, General Intelligence Section, Political Documents, IM, 239 34. See also 11 March 1924, Başbakanlık Osmanlı Arşivi (Prime Ministry’s Ottoman Archives), Foreign Ministry, General Intelligence Section, Political Documents, IM, 239 37.)
Ottoman police reports about preparations before the demonstration, 26
September 1895, Başbakanlık Osmanlı Arşivi, Istanbul, Turkey, Yıldız Perakende Evrakı, Askeri Maruzȃt, 106/67.
Terrell, Alexander Watkins [the American minister in Istanbul] to Secretary of
State Richard Olney, 1 October 1895, United States National Archives, College Park, Maryland and Washington DC Records of Foreign Service Posts of the Department of State, Turkey (Constantinople), Vol. 20.
Terrell, Alexander Watkins [the American minister in Istanbul] to Secretary of
State Richard Olney, 24 October 1895, Papers Relating to the Foreign Relations of the United States, 1895, Part II. Turkey (Documents 479–746), U.S. Department of State. Washington DC: U.S. Government Printing Office, 1896.
https://history.state.gov/historicaldocuments/frus1895p2/comp16, 1325–1327.
Vaughan-Russell, J. F. R. to Ramsay MacDonald [British Prime Minister], 4
March 1924, United Kingdom National Archives, Foreign Office 371 / 10195.
الحواشي
- تم كتابة هذا البحث بتاريخ 1 آب 2022. مع الشكر لنيكولاس الجيلو وسمير قاطرجي لإجابتهم على بعض الأسئلة ولعبد المسيح بار أبراهام لترجمته للوثيقة العثمانية ولعبود زيتونة لمنحه نسخه عن الوثيقة
- Amir Harrak, ‘The Ancient Name of Edessa’, Journal of Near Eastern Studies 51 (1992): 209–14
- قدر الرحالة الإنجليزي ج. س. باكنغهام عدد سكان أورفا خلال زيارته عام 1825 بخمسين ألفا، كان من بينهم ألف سرياني وألف أرمني. Buckingham, Travels in Mesopotamia, London, 1827, pages 150-51. وادعى أيضا أن أكثر من نصف السكان لديهم تشوهات شديدة في الوجه بسبب آفة سائدة في حينها
- مقابلة غير رسمية أجراها المؤلف في 1978 مع رئيس الشمامسة لكنيسة مار جرجس في حي السريان عبد الغني شماس، أحد أخوال المؤلف البعيدين
- (المصدر: التاريخ الشفوي لعائلة شماس). بالتأكيد، لابد أن تكون هناك تهديدات أخرى تم توجيهها في وقت واحد إلى أعضاء آخرين في المجتمع، لكن المؤلف ليس لديه سجل لها
- استنادا إلى مقابلة غير رسمية في عام 1978 مع الشماس عبد الغني شماس
- وفي عام 1979، قام المؤلف بمقابلة غير رسمية مع السيد يعقوب صغير، وهو من الجيل الأول الأورفلي المولود في حلب، وكان قد عاد لتوه من رحلة خاصة لتقصي الحقائق إلى أورفا بمرافقة رجل كبير بالسن مولود في أورفا. وذكر السيد صغير أن جميع مساكن السريان التي تم إخلاؤها كان يشغلها الأتراك أو الأكراد وأن منزل جد المؤلف يعقوب شماس كان يستخدم آنذاك كمكتب حكومي (بالتركية والعربية: شعبة)
- مجلة بيت نهرين (بلاد ما بين النهرين)، الورقة الآشورية، يل: 8، العدد 13-14، 1-15 تموز 1924. تنشر كل أسبوعين من قبل نعوم بالاك، الولايات المتحدة الأمريكية، S. 5-9.
- Terrell to Olney, 1 October 1895, United States National Archives, College Park, Maryland, and Washington DC Records of Foreign Service Posts of the Department of State, Turkey (Constantinople), Vol. 20; Cambon to Foreign Office, 30 September 1895, Ministère des Affaires Etrangères (Ministry of Foreign Affairs), La Courneuve, Paris, Turquie: Nouvelle Serie (NS); Terrell to Olney, 24 October 1895, Papers Relating to the Foreign Relations of the United States . . . 1895, Part II. Turkey (Documents 479–746). U.S. Department of State. Washington DC: U.S. Government Printing Office, 1896.
https://history.state.gov/historicaldocuments/frus1895p2/comp16 , 1325–1327; Houghton Library, Harvard University, American Board of Commissioners for Foreign Missions 16.10.1, Vol. 5; See also Ottoman police reports about preparations before the demonstration, 26 September 1895, Başbakanlık Osmanlı Arşivi, Istanbul, Turkey, Yıldız Perakende Evrakı, Askeri Maruzȃt, 106/67. - British Ambassador to Istanbul Philip Currie to Lord Salisbury [Prime Minister of the United Kingdom 1895-1902], 1 October 1895, Turkey No. 2 (1896), Correspondence Relative to the Armenian Question and Reports
from Her Majesty’s Consular Officers in Asiatic Turkey (HMSO 1896), 30–35. - British Ambassador to Istanbul Philip Currie to Lord Salisbury [Prime Minister of the United Kingdom 1895-1902], 1 October 1895, UK Blue Books,Turkey No. 2 (1896), 22; “Inclosure 2 in No. 50. Petition,” 30 September 1895, Turkey No. 2 (1896), 32–35.
- نائب القنصل هنري جيرالد فيتزموريس (1865-1939)، هو مسؤول قنصلي بريطاني ويجيد اللغة التركية كان قد زار أورفا في منتصف آذار 1896 وصار المصدر الرئيسي لمعظم ما هو معروف عن العنف في أورفا
- Benny Morris and Dror Ze’evi, The Thirty-Year Genocide: Turkey’s Destruction of Its Christian Minorities, 1894–1924. Cambridge, Massachusetts (Harvard University Press, 2019): 106-107
- “Report of G. H. Fitzmaurice to Sir Philip Currie, Constantinople— Ourfa”, March 16, 1896,” Houghton Library, Harvard University, American Board of Commissioners for Foreign Missions 16.10.1, Vol. 12. See also, Barnham to Currie, 6 January 1896, United Kingdom National Archives, London, Foreign Office: Embassy and Consulates, Turkey, General Correspondence 195 / 1932
- Fitzmaurice (Urfa) to Currie, 10 September 1896, United Kingdom National Archives, Foreign Office: Embassy and Consulates, Turkey, General
Correspondence 195 / 1930. - Benny Morris and Dror Ze’evi, The Thirty-Year Genocide: Turkey’s Destruction of Its Christian Minorities, 1894–1924. Cambridge, Massachusetts (Harvard University Press, 2019): 209
- Benny Morris and Dror Ze’evi, The Thirty-Year Genocide: Turkey’s Destruction of Its Christian Minorities, 1894–1924. Cambridge, Massachusetts (Harvard University Press, 2019): 367
- Paul Buhrman, US consul, Aleppo, to Secretary of State, 13 February 1924, and Paul Buhrman to Secretary of State, 11 March 1924, both in United States National Archives, Record Group 59, 867.4016, Roll 48
- Internal report, 9 March 1924, Başbakanlık Osmanlı Arşivi (Prime Ministry’s Ottoman Archives), Foreign Ministry, General Intelligence Section, Political Documents, IM, 239 34. See also 11 March 1924, Başbakanlık Osmanlı Arşivi (Prime Ministry’s Ottoman Archives), Foreign Ministry, General Intelligence Section, Political Documents, IM, 239 37.)
- “Field Secretary’s Report to Committee ad interim on Anatolian Trip September 1924,” undated, Houghton Library, Harvard University, American Board of Commissioners for Foreign Missions 16.9.2, Vol. 1
- R. D. T. Davies to R. E. Wood, commercial secretary, United Kingdom, High Commission, Constantinople, 23 September 1924, United Kingdom National Archives, Foreign Office 371/10229
- Thomsen, “The Assyrians / Syriacs of Turkey,” 3. See also Karimova and Deverell, “Minorities in Turkey,” 12
- Toynbee, Arnold. The Western Question in Greece and Turkey: A Study in the Contact of Civilizations, 2nd ed. London: Constable, 1923. Reprint, New York: Howard Fertig, 1970., 281–282
- Benny Morris and Dror Ze’evi, The Thirty-Year Genocide: Turkey’s Destruction of Its Christian Minorities, 1894–1924. Cambridge, Massachusetts (Harvard University Press, 2019): 207-09
- أرشيف الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، حلب، سوريا. حصل المؤلف على نسخة من هذه القائمة من مكتبة المطران يوحنا إبراهيم خلال زيارة خاصة في أوائل التسعينيات
- في عام 1941، قدر سوفاجيت عدد السكان المسيحيين في حلب ب 130,000 نسمة مقارنة ب 320,000 مسلم. وبناء على هذا التقدير، يجب أن تكون نسبة المسيحيين إلى المسلمين في عام 1924 قد بلغت الثلث على الأقل. راجع:
J. Sauvaget, J. ‘Halab’. Encyclopaedia of Islam, Second Edition. Boston: Brill, 2010. - Munir Bachir, Mesopotamia (Le Chant du Monde; and Saad Bachir, 2003).
- Mark Tomass, The Religious Roots of the Syrian Conflict: The Remaking of the Fertile Crescent, Palgrave Macmillan, 2016
- https://www.youtube.com/watch?v=eS8U9pfPods&t=2505s
- https://nordicmonitor.com/2019/01/turkish-intelligence-mit-worked-with-a-cut-throat-jihadist-in-syria/
- https://www.bbc.com/arabic/multimedia/2013/04/130423_syria_kidnap_2304
- https://www.bbc.com/arabic/middleeast/2013/04/130413_syria_interview_bishop_john_ibrahim
- https://www.bbc.com/arabic/middleeast/2013/04/130413_syria_interview_bishop_john_ibrahim
- راجع كتاب: محمد بن قيم الجوزية ([1292-1350] 1995) أحكام أهل الذمة (بيروت، لبنان: دار الكتب العلمية). في هذا الكتاب، يضع المؤلف، وهو فقيه ورئيس مدرسة الجوزية الدينية في دمشق، القواعد التي تحكم كيفية تفاعل المسلمين مع المسيحيين واليهود في كل جانب من جوانب الحياة،وقد يكون من المفيد الإشارة إلى أن ابن القيم الجوزية كان من أهل دمشق، وتتلمذ على شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو بدوره ينتمي إلى المذهب الحنبلي في الإسلام. وكما هو معروف فإن المذهب الحنبلي يشكل جذور المذهب السلفي الوهابي في الفكر الإسلامي.
- https://nordicmonitor.com/2019/07/public-school-textbook-in-turkey-justifies-9-11-slams-nato-brands-eu-as-christian-club/
- https://www.islamweb.net/ar/fatwa/114621/
- https://www.enabbaladi.net/archives/592828
- Richard N. Frye, “Assyria and Syria: Synonyms,” Journal of Near Eastern Studies 51 (1992): 281-285.; Robert Rollinger, ‘The Terms “Assyria” And “Syria” Again,’ Journal of Near Eastern Studies 65 (2006): 283-7.