الأب الخوري شكري توما
كاهن كنيسة مار جرجس للسريان الأرثوذكس في حي السريان – حلب
الأب الخوري شكري توما هو كاهن كنيسة مار جرجس للسريان الأرثوذكس في حيّ السريان – حلب. تخرّج من المدرسة الإكليريكية الأفراميّة في الموصل عام ١٩٦٠، حاصلاً على شهادة الدبلوم في الفلسفة واللاهوت. تمّ تعيينه مدرّساً لمادّة التربية المسيحيّة والفلسفة في مدارس محافظة الحسكة، حتّى عام ١٩٧٦. وقد سُيّم شمّاساً قارئاً في عام ١٩٥٧، ورسائليّاً في عام ١٩٦٣، وإنجيليا في عام ١٩٧٦. وفي عام ١٩٧٦، تمّ سُيّم كاهناً. قُلّد الأب شكري توما وسام الصليب المقدّس في عام ٢٠٠٩، ورُقّي إلى رتبة الخورنة في عام ٢٠١٦. وتولى مسؤوليّة أمين سرّ مجلس رؤساء الطوائف المسيحيّة بحلب في عام ٢٠١٩. مؤلف كتاب “صدى الايمان”.
عدد صفحات المشاركة 2 صفحة (A4) .
ملحمة الهجرات السريانية الرهاوية: من إبراهيم الخليل إلى اليوم الحالي
عرفت البشريّة هجرات عديدة ومتعدّدة، وذلك لأسباب سياسيّة أو حربيّة أو اقتصاديّة. وكانت الأسباب تدفع الإنسان للهجرة إلى الأماكن التي يجد فيها الراحة والاستقرار والأمان. ومن أوائل الهجرات في التاريخ القديم، هجرة إبراهيم الخليل، أبو القبائل كما جاء في الكتاب المقدّس (تكوين 11)، حيث هاجر مع عائلته من أور الكلدانيين إلى الرها “حران”، ومن ثمّ إلى أرض كنعان واستقرّ فيها. وسأتحدّث الآن عن الهجرات التي تعرّض لها الشعب السريانيّ الرهاوي، الأولى في عام 1924، والثانية في عام 1956، والثالثة ما بين عام 2012 وعام 2016 وحتّى اليوم.
الهجرات الأولى
تعرّض شعبنا السريانيّ في الهجرة الأولى لمجزرة ارتكبها السلطان العثمانيّ عبد الحميد عام 1895، وذهب ضحيّتها 15 ألف شهيد. ويجدر بالذكر أنّ شعبنا لم يرتكب أيّ جريمة ضدّ الدولة العثمانيّة. تلك المجزرة كانت الشرارة الأولى التي تنبّأت بما يخبّئه المستقبل، حيث تشرّد المؤمنون في ذلك الوقت إلى قرى ومدن أخرى. وعندما استقرّ الوضع، عاد الشعب إلى مدينته أورفا.
وفي عام 1915، عندما تمّت المجازر بحقّ الشعب الأرمنيّ والسريانيّ “مذابح سيفو” وسائر الأقلّيّات المسيحيّة، وبعدها بعدة سنوات وبالتحديد في شباط 1924، قرّر الشعب السريانيّ المتواجد في الرها مغادرة أرض الأجداد والآباء والهجرة إلى حلب – سوريا، خوفاً من المستقبل غير المعروف. وقد قام الشعب السريانيّ بتوقيع وثيقة ترك الوطن في البلديّة، حرصاً على سلامتهم وصون إيمانهم. تركوا بيوتهم وأراضيهم ومحلّاتهم المهنيّة والتجاريّة، والأهمّ من ذلك تركوا كنائسهم. وعلى الرغم من الظروف الصعبة التي واجهها الشعب السريانيّ، حملوا معهم الأواني المقدّسة والكتب التاريخيّة والكنسيّة، بما في ذلك كتاب تاريخ مار ميخائيل الكبير، وأيضاً جرس الكنيسة. وكانت هذه أوّل هجرة جماعيّة من أورفا إلى عين العرب وتلّ أبيض، ومعظمهم هاجروا إلى حلب.
استقبل الشعب السريانيّ المهجّر نيافة المطران أفرام برصوم، مطران سوريا ولبنان آنذاك، الذي نجح في تأمين أرض في حلب للّاجئين السريان، وتُعرّف الآن بحيّ السريان. وقد قام بتوفير الخيم والمساعدات الأوّليّة للشعب المهجّر. وكانت أوّل خطوة قام بها الشعب هي بناء كنيسة خشبيّة، إذ يؤمنون بأنّ الكنيسة والمدرسة هما ركيزتان لا يمكن فصلهما. وبدأ الشعب في تنظيم شؤونهم، من إنشاء المؤسّسات واللجان الكنسيّة، وتأسيس حركة كشفيّة ونادٍ رياضيّ. إنّه شعب يعشق الحياة ويحبّ العمل، فقد يقول الكتاب المقدّس “الإيمان بدون أعمال فهو ميّت”، والحقيقة أنّ الشعب السريانيّ الرهاويّ يجمع إيمانه بأعماله. فقد بنوا كنيسة مار جرجس في حيّ السريان، وهي من أجمل الكنائس في حلب، وأيضاً قاموا ببناء مدرسة بني تغلّب الثانية الرائعة بتصميمها وكوادرها. وعلى مدى نصف قرن، تمكّنوا من تحقيق استقرار وتقدّم في جميع المجالات الاقتصاديّة والتجاريّة، والصناعيّة، والعلميّة، والمهنيّة.
الهجرة الثانية
في عام 1956، وقع العدوان الثلاثيّ على مدينة بور سعيد في مصر؛ بسبب تأميم قناة السويس. تحرّكت بعض العناصر الجهلة من الإسلاميّين للهجوم على أحياء المسيحيّين في حلب وحرق الكنائس والأديرة، انتقاماً من “الكفّار” حسب زعمهم. ونسوا أنّ الضابط السوريّ المسيحيّ جول جمال فجّر نفسه في طوربيد فرنسيّ انتقاماً لأبناء شعب مصر. وفعلاً، تحرّكوا بأعداد كبيرة، وأحرقوا كنيسة جورج وماتيلد سالم في شارع فيصل، ثمّ كنيسة دير الفرنسيسكان في حلب. وفي هذا الوقت تحرّك الحكماء والعقلاء من إخوتنا المسلمين، وأوقفوا الفتنة التي كادت أن تهدّد الوحدة الوطنيّة في سوريا.
تحت هذه الظروف العصيبة والغامضة، قامت حوالي 200 عائلة سريانيّة بالهجرة من حيّ السريان في حلب إلى لبنان، ومن هناك هاجروا إلى الغرب. كان لهذه الهجرة تأثير كبير على شعبنا السريانيّ المؤمن.
ثمّ عادت الأمور للاستقرار واستعادة طبيعتها، وشهدت نهضة علميّة كبيرة. حيث توجّه مئات الذكور والإناث من حيّ السريان إلى الجامعات، وحصلوا على شهادات في مختلف التخصّصات. والآن يعيش الجميع في حيّ السريان حياة رغيدة مليئة بالأمن والأمان.
الهجرة الثالثة
منذ عام 2012، عندما اندلعت الحرب الكونيّة في سوريا، وتعرّضت لتدمير شامل، حيث دمّرت الأشجار والمباني، وقطعت مقوّمات الحياة الأساسيّة، وسيطر الإرهاب على ثلاثة أرباع المحافظة، كانت حياة الناس معرّضة للقتل يوميّاً. في هذه الفترة، قرّر أكثر من 600 عائلة سريانيّة رهاويّة الهجرة من حلب، باستغلال الفرص المتاحة، واتّجهت إلى أوروبا وكندا وأستراليا. لقد فقدنا في هذه الهجرة شخصيّات علميّة كبيرة وتجّاراً ومهنيّين، وذلك بسبب عدم اليقين بالمستقبل وحفاظاً على أرواحهم.
ومع ذلك، كان اللّه مع سوريا، واستطاعت النصر على أعدائها عسكريّاً. وعندما فشل الأعداء في تحقيق أهدافهم العسكريّة، حوّلوا الحرب إلى حرب اقتصاديّة. واليوم، يعاني شعبنا من ارتفاع تكاليف المعيشة الصعبة جدّاً، ولكنّ الأمل ما زال موجوداً في أنّ المستقبل سيكون أفضل وسوريا ستعود إلى وضعها الطبيعيّ من الاستقرار وإعادة الإعمار. ونحن السريان نشكّل مكوّناً أساسيّاً في سوريا، لأنّها موطن الآباء والأجداد المخلصين.
وأختم هذا السرد التاريخيّ الموجز مسجّلاً انطباعاتي الصادقة عن هذا الشعب السريانيّ الرهاوي المؤمن الذي خدمته كاهناً في كنيسة مار جرجس منذ عام 1976. حيث تعايشت مع الجيل الأوّل لهجرة الرها، ثمّ الجيل الثاني والثالث والرابع. وخلال أكثر من أربعة عقود، تكون لديّ اعتقاد قويّ بأنّ هذا الشعب يستحقّ الحياة؛ لأنّه شعب مجد، نشيط، وفيّ، ومخلص.
والشعب السريانيّ الرهاوي، أينما كان الآن في بلاد الاغتراب، قبلته الأولى حيّ السريان في حلب وكنيسته التي ترعرع فيها، متأثّراً بألحانها السريانيّة الأصيلة. وأنا من خدمت هذا الشعب الذي أعتبره عائلتي الكبيرة، وما زلت أشاركهم أفراحهم وأتراحهم، فالذين كلّلتهم، كنت قد عمدت أولادهم، ثمّ كلّلت أولادهم وعمدت أحفادهم.
لقد رفضت أن أغادر رعيّتي رغم الظروف الصعبة، وصرّحت في أكثر من مناسبة: “أنا آخر شخص يغادر حيّ السريان، وأفضّل الشهادة عن المغادرة، لأنّ حياتي ليست أفضل من حياة رعيّتي، وسأبقى بخدمتهم حتّى الرمق الأخير من حياتي”.
وكلّي أمل ورجاء ألّا تتكرّر هجرات أخرى بحقّ الشعب السريانيّ الرهاوي الأصيل، الذي هو ورثة عبير القداسة من مارّ أفرام السرياني ومار يعقوب الرهاوي ومار رابولا الرهاوي.
وأختم بقول السيد المسيح: ” طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ”. الطوبى لشعبنا السرياني الرهاوي، من هجرة إلى هجرة والاستقرار في أحضان الرب له المجد والكرامة.
1
2
3
4
5
6
7
8
9