الملفونو نعيم باسيل حمامجي
سوريا ـ حلب
ولد الملفونو نعيم في مدينة حلب في شباط عام 1936. امتزجت حياته بين العمل التجاريّ والنشاط الاجتماعيّ والخدميّ، حيث كان تاجراً للموادّ الغذائيّة، وتقاعد فيما بعد. بدأ مسيرته الخدميّة والاجتماعيّة في مرعيث مار جرجس، حيث شغل عدّة مناصب في المجالس الملّّيّة، وتمّ انتخابه نائباً لرئيس المجلس عدّة مرّات. في عام 1982، قام بتأسيس مركز التربية الدينيّة لمرعيث مار جرجس، حيث كرّس جهوده لتوفير بيئة تربويّة دينيّة محفّزة لأبناء المرعيث، وظلّ ملتزماً بخدماته عبر عضويّته في اللجنة الاستشاريّة للمرعيث في عام 2003. علاوة على ذلك، قام بدور فعّال كمشرف ماليّ لدار المسنّين (السيّدات) في الفترة من عام 2009 إلى عام 2014.
عدد صفحات المشاركة 56 صفحة (A4) .
طائر الفينيق
الهجرة الأولى: ترك وطن وبناء مجتمع جديد
أنا نعيم حمامجي، والدي باسيل نعوم حمامجي ووالدتي فهيمة شمّاس، من مواليد حلب 1936، وأنا من عائلة هاجرت من الرُّها عام 1924 م، واستقرّت في حلب.
عندما طُلب منّي كتابة شهادتي حول حياة الرهاويّين المهاجرين على مدى مائة عام من 1924 حتّى 2024، عادت بي الذاكرة لسنوات خلت. عشت بها وسمعت عنها بحلوها ومرّها، فقد كنت الحفيد المحبوب للسيّد نعوم جرجي حمامجي من ابنه باسيل، وكان جدّي يأخذني معه في زياراته وسهراته، ومن طبعي محبّة الجلوس مع الكبار بالسنّ.
أسمع قصصهم وحكاياتهم وأحاديثهم بفضول وشوق، ومثل أيّ طفل كانت هذه القصص والأحاديث تُحفر في ذاكرتي، وجاء الآن من يحرّكها وينشّطها، فبدأت هذه الذكريات تتحرّك في مخيّلتي كفلم سينمائيّ عن حياة الرهاويّين، الّذين كُتب لهم العيش في مدينة من أعظم المدن في التاريخ المسيحيّ، لينزحوا منها خوفاً على عائلاتهم من بطش الأتراك، وتمسّكاً بدينهم ومعتقداتهم.
لقد حملوا معهم كنوزهم الكنسيّة البسيطة بعربات خشبيّة، وعبروا الجبال والوديان المليئة بالوحوش البرّيّة والبشريّة، ليصلوا لبرّ الأمان، وأسّسوا مجتمعاً جديداً متناغماً مع محيطه، دون أن يفقدوا أصالتهم ويذوبوا فيه، فبنوا حيّاً وكنيسة ومدرسة، وقاموا بنشاطات دينيّة وثقافيّة وتربويّة وكشفيّة. لقد بنوا وعلّموا أولادهم مختلف أنواع المهن والعلوم، فأصبحوا في جيلهم الرابع، أطبّاء ومهندسين وأصحاب شهادات جامعيّة ومهن حرفيّة يُضرب بهم المثل بالتضحية والعمل والبناء. وما زال هذا الشريط السينمائيّ يدور، وأنا أرى أبناءنا في الهجرة الثانية، ينتشرون في أرجاء الأرض فخورين بانتمائهم إلى هذا المجتمع.
قد لا تختلف قصّة عائلتي عن قصص الكثير من العائلات الرهاويّة بحلب، ولكنّها تجسّد كلّ ما سبق. بدأت القصّة في الرُّها بالقرن الثامن عشر ميلادي، عندما وصلها شابّ من بغداد يدعى برصوم، ولقّب فيها (بغدادلي برصوم). لا أحد يعلم لماذا أتى هذا الشابّ؟ ولماذا ترك بغداد؟ ولكنّه تزوّج من رهاويّة وأنجب طفلاً أسماه جرجي.
عاش جرجي بالرُّها، ويبدو أنّه كان طويل القامة، فلُقّب بجرجي الطويل أو أوظون جرجي، لم يكن جرجي ابن برصوم معروفاً بالرُّها، وغير معروف في أوساط الرهاويّين السريان في ذلك الوقت، ولكنّه تبرّع ببناء أساسات كنيسة مار بطرس وبولس في الرُّها، فالتفتت إليه الأنظار، وسُمّي حينها (ظرب شختة جرجي) أي جرجي الّذي ظهر فجأة. تزوّج جرجي وأنجب صبيّين هما نعوم البكر (وهو جدّي) وعبد المجيد، وبنت لا أذكر اسمها. ولكن جرجي تُوفّي مبكّراً تاركاً وراءه أيتاماً، فتزوّجت امرأته من رجل من عائلة كلور، وأنجبت منه شقيقين لجدّي هما عبّود وعزيز كلور.
لم يكن جدّي نعوم ابن جرجي شابّاً عاديّاً، بل كان شابّاً طموحاً، يبحث عن النجاح بحياته، ويحقّقه بفضل ذكائه ومثابرته على العمل. عمل جدّي بمحلّ حلاقة شهير وهو بسنّ 16 عاماً، وكان يتردّد على هذا المحلّ نخبة من الرهاويّين بكلّ أديانهم وطوائفهم، فتعرف هناك على كمال بيك صاحب حمّام بالرُّها، وأثناء حديثه مع صاحب المحلّ أخبره أنّه ينوي إغلاق الحمّام بسبب صعوبة العمل فيه، فما كان من جدّي إلّا أنّ طلب شراء الحمّام منه مقابل مبلغ يسدّده على 5 سنوات، وكان له ذلك، فأصبح جدّي نعوم صاحب الحمّام؛ ومن هنا أتى لقب عائلتنا، وأصبح جدّي يعرف باسم نعوم حمامجي. تزوّج نعوم حمامجي حوالي عام 1900 من (بهيّة مصمنه جي) ابنة إحدى العائلات الثريّة في الرُّها، وكانوا من أصحاب الأراضي الزراعيّة والحقول، لا بل أنّ أخاها الأكبر كان يُلقّب بالأفندي، وهو لقب يُمنح من السلطان العثمانيّ باستنبول لأصحاب الإقطاعيّات الكبيرة.
أنجب نعوم ستة أولاد، ثلاثة ذكور وثلاث إناث، وسوف أذكر أسماء الذكور منهم حاليّاً، لدورهم في العمل المجتمعيّ لاحقاً بحلب، وجميعهم من مواليد الرُّها وهم: جورج نعوم حمامجيّ تولد 1902 وباسيل نعوم حمامجيّ تولّد 1905، وسامي نعوم حمامجيّ تولد 1921.
استطاع نعوم بفضل ذكائه وفطنته ومهارته واجتهاده أن يطوّر أعماله ليصبح من كبار التجّار في الرُّها، فعمل بالإضافة للحمّام بتجارة مال فاتورة ببيته الكبير، وأدار مصبنة بيت حميه، كما عمل متعهّداً لنقل البحص والحجارة في أثناء تشييد الخطّ الحديديّ، الّذي بناه الألمان من بغداد إلى استنبول عبر حلب، والمعروف باسم خطّ الشرق السريع، وكان متعهّداً للقطاع الممتدّ من عين العرب حتّى تلّ أبيض، ويُقال إنّه كان يملك مع شريكه ثمانين عربة لنقل البحص. تعرّض نعوم لمحاولات سلب وقتل عديدة، ولحماية نفسه شارك تركيّاً مسلماً يدعى كمال بيك.
استمرت أعمال نعوم بالازدهار حتى الحرب العالمية الأولى، والتي انتهت بسقوط السلطنة العثمانية، ودخول الجيش العربي والفرنسي سوريا حتى حدودها الطبيعية في جبال طوروس بما فيها الرُّها، ولكن اتفاقية لوزان (2) عام 1923 بين أتاتورك والمنتدب الفرنسي، أعاد أراضي كليكية للأتراك ومدينة الرُّها من ضمنها، وانسحب الجيش الفرنسي حتى الخط الحديدي، والذي أصبح خط الحدود السورية التركية الحالية.
عندها شعر الرهاويون السريان بالخوف من الأتراك، واحتمال تعرّضهم لمصير مشابه لما حصل للأرمن والسريان في شرق كليكيّة عام 1915، والّتي وصلت لمسامعهم الكثير عن أهوالها والجرائم الّتي ارتكبها العثمانيون بحقّهم (مجازر سفر برلك وسيفو)، فقرّروا الهجرة الجماعيّة من الرُّها مع أهالي سيفراك واضيامن (وهما بلدتان صغيرتان قرب الرُّها يسكنها السريان) باتّجاه الجنوب أي باتّجاه الأراضي السوريّة.
استشعر نعوم أيضاً بالخطر، وتوقّع أنّ السلطات التركيّة لن تتركهم يتصرّفون بأموالهم وأملاكهم قبل الهجرة، وهو صاحب حمّام ومصبنة وبيت فاخر، وسيُجبرون على تركها وتسليمها للتركيّ بدون ثمن. فقرّر بيع أملاكه لشريكه التركيّ بعُشر ثمنها، على أن يسدّدها له في حلب (ولم يسدّدها كاملة). وبالفعل فقد قامت السلطات التركيّة بإصدار فرماناً، يعتبر كلّ من يغادر بلده هو (تاركاً للوطن)، وعليه التخلّي عن أملاكه وأمواله وأرزاقه للدولة التركيّة (فرمان ترك وطن).
اتخذ المجلس المليّ للسريان بالرُّها – وكان جدّي نعوم من أعضائه – قراراً بالهجرة الجماعيّة من الرُّها، ولكن كانت هناك مشكلة كبيرة تواجههم، فالطريق للحدود السوريّة لم يكن آمناً، وينتشر بها قطّاع الطرق واللّذين يعرفون باسم (الجتا) وخاصّة في الوادي القريب من الرُّها، حيث ذُبح فيه ثلاثة آلاف من العساكر الفرنسيّين وبعض السريان المتعاونين معهم أثناء انسحابهم السلميّ من الرُّها، وعلى الرهاويّين دفع 3000 ذهبيّة، لتأمين الطريق وحتّى لا يتعرّض لهم (الجتا).
استطاع المجلس المليّ جمع المبلغ المطلوب بطريقة سرّيّة جدّاً، مع التعهّد من الرهاويّين السريان بعدم إشهار الرغبة بالهجرة خوفاً من لفت الأنظار وتعرّض الطائفة للخطر. وتمّ التخطيط للهجرة الجماعيّة على دفعتين الأولى في 24 شباط عام ١٩٢٤ والثانية في آذار 1٩٢٤ وكان جدّي وعائلته بالدفعة الأولى.
القافلة الأولى
مع القافلة الأولى، استأجر جدّي عربة لنقل عائلته، وعبّروا الوداي والخوف يملأ قلوبهم، بل أنّ جدّي أختبئ تحت العربة، وهي تعبر الوادي، ومن قصص الخوف الّتي عاشوها أنّ قافلة العربات توقّفت فجأة، فساد الرعب قلوب المهاجرين، وأنّ (الجتّا) قد بدؤوا بالهجوم عليهم، حتى عرفوا أنّ دولاب العربة الأولى قد انكسر، فتابعوا الرحلة بعد إصلاحه حتّى وصلوا بسلام للحدود السوريّة، فسجدوا وشكروا اللّه على سلامتهم. وكان مجموع العائلات الّتي تركت الرها بالقافلتين 600 عائلة. استقر عدد منهم في عين عرب وتلّ أبيض ورأس العين والحسكة، والباقي تابع رحلته بالقطار لحلب، وكان عددهم 440 عائلة.
وصل الرهاويون السريان إلى حلب، وكان في استقبالهم السيّد سليم عازار، أحد أبناء الرعيّة السريانيّة بحلب، بتكليف من المطران أفرام مطران حمص (الّذي أصبح فيما بعد البطريرك أفرام الأوّل)، وهو إنسان خيّر وغيور على السريان. استطاع التفاوض مع السيّد ماركوبولي (إيطالي ساكن بحلب)، لشراء أرض الخناقيّة بحلب (حيّ السريان القديمة بحلب حاليّاً) لصالح السريان الرهاويّين مقابل 5 قروش للذراع، ويحقّ لكلّ عائلة 100 ذراع على الأكثر، يُدفع ثمنها تقسيطاً للسيّد ماركوبولي على مدى 25 سنة، بضامنة السيّد سليم عازار. وتكفّل المجلس المليّ للطائفة الّذي كان قد تشكّل بالرُّها، وما زال على رأس عمله بحلب بتنظيم التسديد بمساعدة السيّد جورج آجي الّذي انضمّ للمجلس للاستفادة من خبرته المحاسبيّة.
استقر الرهاويون في منطقة الخناقيّة، لتبدأ مرحلة جديدة من حياتهم بمدينة حلب السوريّة، فبنوا بيوتاً من اللبن والطين، وغطّوها بألواح التوتياء على شكل براكيّات؛ ولذلك عُرفت المنطقة بوقتها ببرّاكات السريان.
نعود مجدداً لجدّي نعوم الّذي استأجر منزلاً في منطقة باب جنين، وبدأ التفتيش عن عمل يعيش منه، واستطاع مرّة أخرى بذكائه وفطنته أن يُشارك صاحب محلّ يقع أمام منزله، وهذا المحلّ مُستأجر كوقف لجامع المولويّة الواقع خلف المحلّ. وضع جدّي بضاعة في المحلّ كونه كان خالياً من البضائع، ولكنّه اكتشف بعد 6 أشهر من الشراكة، أنّ صاحب المحلّ مديون، فخاف جدّي على بضاعته، واستطاع أن يُقنع الشيخ المسؤول عن الجامع بنقل آجار المحلّ لاسمه، فأصبح جدّي المستأجر الجديد للمحلّ، وكان ذلك في صيف 1924 تقريباً حسب ما روته جدّتي ووالدي وأعمامي.
انتقل جدّي وعائلته للسكن في منزله الجديد ببركات السريان، مع نهاية عام 1925، وما زال هذا المنزل موجوداً وهو البناء المهجور أمام معمل مشخص، وكان قد رفض عرضاً مغرياً بأرض كبيرة تمتدّ حاليّاً من خلف مشفى الرازي، حتّى دوّار المحافظة مقابل 200 ليرة ذهبيّة، ولكنّه تمسّك بالسكن مع أبناء شعبه وأهله في حيّ السريان.
كما استمر جدّي نعوم في خدمته لأبناء طائفته في مكان سكنهم الجديد (بركات السريان)، كوّنه أحد أعضاء المجلس الملّيّ المشكّل بالرُّها. ليُعاد تعيينه بالمجلس المليّ من عام 1927 حتّى عام 1940 وعلى دورتين.
عاش الرهاويّون بحلب والأمل يملأ قلوبهم بحياة جديدة تعوّضهم سنوات العذاب، وتخفّف من مآسي هجرتهم، وخاصّة أنّ أولادهم قد أصبحوا شباباً يمكن الاعتماد عليهم.
في عام 1927، شارك والدي بـتأسيس أخويّة مار يعقوب الرهاوي بحيّ السريان، وعندما ذهبوا إلى المطرانيّة لنيل بركة سيّدنا المطران عباجي، وطلب الموافقة على بناء الكنيسة الخشبيّة في الحيّ، أخذت صورة فوتوغرافيّة لشباب الحيّ الرهاويّين مع سيّدنا المطران، الّذي كُتب خلفها بخطّ اليد “إنّي أراكم شباباً يملأكم الحماس، ويمكن الاعتماد عليكم في بناء الأبرشيّة”. فالجيل الثاني من المهاجرين الرهاويّين كانوا مسلّحين بأيمانهم المسيحيّ والحماس لبناء المجتمع الجديد.
جمعية مار يعقوب الرهاوي ١٩٢٧
الكنيسة الخشبية (1927)
بعد نيل بركة وموافقة المطران عباجي على بناء الكنيسة الخشبيّة في حيّ السريان، قام المجلس المليّ بالتحضير وبناء الكنيسة، ويذكر كبار السّن من الرهاويّين، ومن بينهم السيّد جورج آجي والد السيّد نوري آجي – وقد سمعت ذلك من عمي جورج، أنّ الأرض الّتي بُنيت عليها الكنيسة الخشبيّة، كانت باسم المحسن الإيطالي ماركوبولي وباسم جدّي ممثّلاً عن المجلس المليّ، حتّى تمّ التنازل عنها وصدور سند التمليك باسم الطائفة.
تمّ بناء الكنيسة من الخشب وبقربها ثلاث غرف من اللبن والطين والتوتياء، وهذه الغرف كانت نواة لمدرسة السريان الخاصّة، الّتي درس فيها معظم أبناء الجيل الثالث من المهاجرين، والّتي تغيّر اسمها فيما بعد إلى مدرسة بني تغلّب الثانية عام 1959.
الرهاويون الأرثوذكس بمواجهة الكثلكة
لم تكن حياة الرهاويّين سهلة بحلب، فقد كانوا يفتقدون العمل والمال وحتّى اللغة. واستغل المنتدب الفرنسيّ ذلك، بمحاولة رشوتهم للانضمام للكثلكة، وبدأ بتوزيع الطحين والحبوب على الرهاويّين بغية جذبهم للكنيسة السريانيّة الكاثوليكيّة. واستطاعوا لذلك سبيلاً ولو مؤقّتاً، ولكن مع انقطاع المساعدات والطحين بعد فترة من الزمن، عاد الكثير من الرهاويّين لكنيستهم الأرثوذكسيّة، وهم يتهكّمون ويتغامزون بجملة تركيّة ذهبت مثلاً فيما بعد “أون بيتي.. دين بيتي”، يعني بالعربيّة ” انتهى الطحين.. انتهى الدين”، وهذا يدلّ على أصالة هذا الشعب وتمسّكه بكنيسته.
الملحمة الكبرى ـ بناء الكنيسة الحجريّة (1932-1936)
مع استقرار أوضاع الرهاويّين وتحسّن أوضاعهم الماليّة نسبيّاً، بدأوا بالتخطيط لبناء كنيسة حجريّة بدلاً من الكنيسة الخشبيّة، وتُشبه في تصميمها كنيسة مار بطرس وبولس في الرُّها، تردّ عنهم البرد والمطر شتاء، والحرّ صيفاً.
شكّل المجلس المليّ آنذاك – وكان يرأسه القسّ يوسف قرياقوس – لجنة للإشراف على عمليّة البناء، وكان جدّي نعوم أحد أعضاء هذه اللجنة.
لكنّ كلفة البناء كانت عالية، فبدأوا بالسعي للحصول على التمويل اللازم. تبرّع المقتدرون من أبناء الطائفة بمبالغ، ثمّ توجّهت اللجنة للرهاويّين المقيمين في بيروت والحسكة وعين عرب وتلّ أبيض ورأس العين، واستطاعوا جمع مبلغ آخر منهم. ولكن ما زالت الحاجة كبيرة، لشراء الأسمنت والحديد وموادّ البناء الأخرى، فتوجّهوا لأهمّ تاجر بالسوق لبيع موادّ البناء وهو السيّد جورج عازار ابن الوجيه والمحسن السريانيّ سليم عازار، واقترحوا عليه شراء المواد، ودفع ثمنها تقسيطاً من نصف ما يتمّ جمعه من تبرعات الكنيسة في قداديس يوم الأحد.
وافق السيّد جورج عازار على ذلك، ولكن بضمانة جدّي نعوم كونه تاجراً معروفاً بالسوق، ويتمتّع بسمعة طيّبة، وكان هو من يقوم بتوصيل المبلغ للسيّد جورج عازار كلّ يوم أحد.
بدأ الرهاويّون ببناء كنيستهم الحجريّة بعد توفّر المال والموادّ الأساسيّة للبناء، وعنونت ذلك في بداية الفقرة، بأنّها ملحمة كبرى. وكان المتبرّع الأساسيّ والشهم والخيّر هو الشعب الرهاويّ في حلب، حيث هبّوا للمساعدة في بناء الكنيسة من الشباب والنساء والكهول والأطفال.
قاموا بالعمل مجّاناً في البناء، حملوا الحجارة والبحص والرمل والماء، وقاموا بخلط الإسمنت. وكانت النسوة يجلبن الماء من الآبار لتروي ظمأ العمّال، ويقمن بتحضير الطعام للعاملين جميعهم. وأشهر هذه الأطعمة كان كبّة العدس، فيما قَبِل إبراهيم أفندي، معلّم البناء في الحيّ، العمل مقابل بطحة عرق في نهاية كلّ يوم عمل!
صورة إبداعية خلّاقة تستحقّ العرض في متاحف القيم الإنسانيّة والحضاريّة، تعبّر عن التعاون اللامحدود، وكذلك إيمان الرهاويّين بدينهم الجامع لكلّ أطيافهم، والأمل بالحياة الجديدة، وما زالت هذه الصورة تداعب مخيّلة الرهاويّين حتّى يومنا هذا.
استمرّ جدّي نعوم بنقل الدَين المستحقّ أسبوعيّاً للسيّد جورج عازار لمدّة 4 أشهر، ولكنّه أُقيل من اللجنة، وانقطعت الأموال عن السيّد جورج لمدّة ستّة أشهر، وللأمانة لم يُطالب السيّد جورج، جدّي بالدين خلال هذه الفترة، حتّى جاء يوم، توقّفت فيه سيّارة فاخرة أمام محلّ جدّي نعوم في باب جنين، ونزل منها سائق بثيابه المميّزة، والّتي تُعبّر عن قيادته لسيّارة شخصيّة مهمّة، وبعد تأكّده من تواجد جدّي بالمحلّ، اتّجه نحو السيّارة، وفتح الباب الخلفيّ، ونزل من السيّارة شخص أوروبّي الملامح، يرتدي ملابس فاخرة، ويضع على رأسه قبّعة تشبه كما قال لي عمّي سامي، قبّعات الممثّلين الأمريكان”.
قام الشخص بالتعريف عن نفسه، بعد أن تعرّف على جدّي، بأنّه قنصل مملكة السويد، وأنّه يبحث منذ شهر تقريباً عن شخص موثوق يمثّل الرهاويّين السريان اللّذين يبنون كنيسة في منطقة بركات السريان، وأنّ عصبة الأمم تبرّعت لهم بمبلغ مادّيّ لاستكمال بناء الكنيسة، فتمّت الدلالة على جدّي، كونه تاجراً معروفاً وموثوقاً بين التجّار في السوق، وأعطاه شيكاً بالمبلغ المتبرّع به. شكر جدّي اللّه أوّلاً، ثمّ توجّه بالشكر للقنصل وحكومة مملكة السويد، وللمسؤولين في عصبة الأمم، وقال: إنّها كنيسة مباركة واللّه يساعدنا في بنائها. بعد وداع القنصل، توجّه جدّي للبنك، وقام بصرف الشيك، ودفع دين الطائفة للسيّد جورج عازار، وسلّم باقي المبلغ لوكيل الكنيسة.
انتهى بناء الكنيسة، وكُرّست عام 1936، وسُمّيت على اسم شفيعها “كنيسة مار جرجس للسريان الأرثوذكس” ورُفع الجرس على برجها، وعُلّقت الثريّات في قبّتها، وحُفظت الكتب الأثريّة في خزائنها. كانت هذه النفائس جميع ما أحضره الرهاويّون من الرُّها عند الهجرة. اندلعت الحرب العالميّة الثانية عام 1939، وترك جدّي نعوم المجلس المليّ عام 1940، لكبر سنّه وتوفّي عام 1945.
كما ذكرت سابقاً، كان لجدّي نعوم ستة أولاد، منهم ثلاثة ذكور، وثلاث إناث، وسوف أذكر لمحة عن عمّي جورج نعوم حمامجي، كونه شارك في الشأن العامّ للطائفة عندما كان بحلب، وأترك سيرة أبي باسيل لسطور أخرى.
الولد البكر لجدّي نعوم كان جورج نعوم حمامجي. ولد عمّي جورج عام 1902 في الرها، وكان يبلغ من العمر عند الهجرة 21 سنة. عمل في خان الصابون كتاجر نصف جملة، يشتري البضائع من الخان، ويبيعها لتجّار المفرق بالسوق، ولكن عندما استقر جدّي في محلّه في باب جنين، انتقل للمحلّ وعمل مع جدّي. تزوّج من سيّدة أرمنيّة تدعى فارتوهي، وأنجب منها أربعة أولاد هم، جوزيف وجوزيفين وهنري ونايلا جورج حمامجي.
عمل عمي جورج بالنشاطات الخيريّة لكنيسة مار جرجس بحيّ السريان، وكان عضواً في لجانها لعدّة سنوات، كما أصبح عضواً في عدّة مجالس مليّة متعاقبة لمرعيث مار جرجس بحلب من عام 1945 حتّى عام 1954، برئاسة الخوري إلياس شيلازي وبعده نيافة المطران جرجس بهنام. وبعدها أصبح نائب رئيس المجلس المليّ لمرعيث مار جرجس المنتخب عام 1954 حتّى عام 1959، برئاسة المطران جرجس بهنام. كما استلم إدارة نادي الشهباء مع السيّد جان كلور بعد عزل مديرها السابق. هاجر عمي جورج لبيروت عام 1961، وعمل في مجال بيع المعلّبات، ثمّ في تحميص الموالح وأخيراً ببيع السجّاد، وتوفّي في بيروت عام 1976.
طائر الفينيق السوريّ
وُلد باسيل نعوم حمامجي في الرُّها عام 1905، وكان عمره عند الهجرة الأولى 19 عاماً، ولكنّه ما لبث أن غادر حلب إلى بيروت عند خاله بشير مصمنه جي1، وبدأ بتعلّم حياكة السجّاد اليدويّ مع ابن خالته يعقوب حبيب، ليعود إلى حلب عام 1927، ويؤسّس ورشة لتصنيع السجّاد اليدويّ، فاشترى الأنوال وخيوط الصوف الخامّ، وكان يغسل الصوف بمادّة القصار، ويصبغها بالألوان المناسبة، ثمّ يشدّها على النول بمسافات متساوية، ويبدأ الحياكة معتمداً على رسوم مقطّعة بمربّعات دقيقة. لقد عملت بالورشة لديه مجموعة من نساء الحيّ.
باسيل نعوم حمامجي
اتفق جدّي مع تاجر أرمنيّ على شراء كامل إنتاجه ليصدرها للولايات المتّحدة. ولكنّ الأزمة الاقتصاديّة الّتي ضربت الولايات المتّحدة عام 1929، أدّت لتوقّف التصدير، في حين أدّت المنافسة مع السجّاد العجميّ لنقص المبيعات؛ ممّا اضطرّه لإغلاق الورشة وبيع الأنوال عام 1932 ليفتح محلّ سمانة في باب الفرج قرب المخفر. كان العمل في محلّ السمّانة جيّداً، وكان يغذّي أصحاب المحلّات والمطاعم بمنطقة باب الفرج وبستان كلّ آب بـ 100 تنكة كاز يوميّاً. لكنّه كان عملاً مضنياً أيضاً، إذ كان يبدأ من الخامسة صباحاً حتّى ساعات اليل.
سجاد يدوي صنع باسيل حمامجي
في الإضراب الخمسينيّ بسوريا، كان والدي يذهب للمحلّ منذ الفجر، ويؤمّن حاجة الزبائن من البضائع، ليغلق في الثامنة صباحاً، ومع ذلك هُدّد بتحطيم المحلّ من منظّمي الإضراب، فقام جدّي بمصادرة مفاتيح المحلّ منعاً لفتحه، وتعرّض والدي للخطر، غضب والدي وبدأ الصراخ ومناقشة جدّي بصوت عال، ولكنّه بالنهاية استسلم لقرار جدّي، وجلس حزيناً وخائباً في زاوية البيت، فتوجّهت إليه وأنا ابن الثلاثة أعوام لأقول له مواسياً “معلش بابا لا تزعل ولا تاخد تعطي مع جدّي.. بكرا منتشري أنا وأنت صندوقان للبويا، ونقوم بصبغ الأحذية بشوارع حلب، كما يفعل جارنا”. وكان جارنا يعمل ماسحاً للأحذية، يحمل صندوقه كلّ صباح، ويذهب للعمل على الرغم من الإضراب2.
عام 1940 أغلق والدي محلّ باب الفرج انتقل للعمل مع جدّي وعمي في محلّ باب جنين، وكان يسافر إلى الحسكة ليشتري السمن العربيّ، ويرسله لتاجر حلبيّ من بيت الزعيم. ثمّ شارك تاجراً من حلب بمحلّ جديد بباب جنين، وبدأ بالسفر لبيروت ليشتري المعلّبات، ويرسلها لمحلّه بباب جنين، وكان عملاً ناجحاً جدّاً.
العمل بالزراعة (قرية سلوك) والخسارة الماليّة الكبرى
في عام 1950 جاء خال أبي من بيروت ليعرض على والدي مشروع قرية السلوك، والّتي يمتلكها أخواله ووالدته مع شريك تركيّ بموجب طابو (صكّ عقاريّ) تركيّ، ونسبة أخواله هي 2/3 ونسبة الشريك التركيّ هي 1/3. تقع قرية السلوك ضمن الأراضي السوريّة بعد انسحاب الأتراك منها إثر الحرب العالميّة الأولى. يزرعها بطريقة غير شرعيّة أبناء القرية. فطلب من والدي – بسبب علاقاته في منطقة الجزيرة – الاتّفاق مع أهل القرية على أن يتنازل أخواله عن ½ حصّتهم لأهل القرية وتحويل الباقي من حصّتهم أي 1/3 الأرض الكاملة لآل مصمنه جي، بموجب صكّ عقاريّ سوريّ، ويكون لأبي عندها حصّة من الأرض الباقية كحصّة باقي أفراد عائلة مصمنه جي، إضافة لحصّته الشرعيّة من حصّة والدته، ويمكن لوالدي زراعتها والاستفادة من حصّته بها. كانت الأرض كبيرة، ويمكن زراعتها ب 3000 كيس من حبوب الحنطة؛ وبالتّالي فإنّ الأرض المتبقّية يمكن زرعها بحوالي 1000 كيس حنطة.
وبعد إتمام الاتّفاق والحصول على الصكّ العقاريّ السوريّ، فكّر أبي بزراعة الأرض، وخاصّة أنّها كانت مرويّة بقناة مائيّة رومانيّة قديمة.
ولكنّ الأمور بحلب بدأت تتعقّد فالشريك الحلبيّ بدأ التلاعب بدفاتر محاسبة المحلّ مستغلّاً ابتعاد والدي وسفره المتكرّر لتلّ أبيض وبيروت، وانشغاله بأمور الأرض. فكان أن فُضّت الشراكة، ونقل والدي حصّته من البضائع لمحلّ عمّي (وكان ذلك سبباً في تركي الدراسة لمساعدة والدي في أمور الجرد ونقل البضائع كما سيأتي لاحقاً). وتفرّغ أبي بعدها لزراعة أرض سلوك، وبسبب حاجته للسيولة الماليّة شارك أحد التجّار الحلبيّين من آل الزعيم ب 25000 ليرة سوريّة بذار الحنطة و25000 ليرة سوريّة مشاركة برأس المال، كما استدان من أخيه جورج 50000 ليرة لدعم رأس ماله، وزرع الأرض ب 900 كيس حنطة، فيما زرع المنطقة المرويّة بالقناة الرومانيّة قطناً، مقدّراً أن الموسم سوف يؤمّن له 400 طن من المحصولين.
ولكن حبوب الحنطة المزروعة كانت ضعيفة، والقطن أُصيب بمرض زراعي، وبالتالي لم يتجاوز الإنتاج 16 طنا، فكانت الخسارة كبيرة.
في السنة التالية حضّر والدي الأرض للزراعة مرة أخرى وعلى أن يرسل شريكه الحلبي بذّاراً جيداً، ولكن البذّار تأخر، ومرّ وقت الزراعة.
تراكمت ديون أبي، ورفع الشريك الحلبي دعوة قضائية على والدي يُطالبه بالمبلغ الذي دفعه على أساس أنه دين مستحق، وليست شراكة يتحمل مع أبي الخسارة، ولكنه خسر الدعوة عام 1954. كذلك طالب عمي جورج أبي بدينه، وبلغت خسارة أبي 110000 ليرة سورية. تدّخل الصديق المشترك جورج بالقجي لحل المشكلة بين والدي وعمي، فدفع والدي مبلغ 25000 ليرة سورية لعمي جورج، وباعه حصته بالبيت بمبلغ 25000 ليرة سورية. وبقيت 60000 ليرة سورية ديناً للمدينين الآخرين تم تسديدها سنويا من أرباح محلنا بالقامشلي حتى سنة 1960.
لكن طائر الفينيق3 المزروع في باسيل نعوم حمامجي، أبى أن يبقى تحت الرماد، فانتفض مرة أخرى ليطير محلقاً بمشوار حياة جديدة، وهذه المرة في القامشلي عام 1954 مدعوما بأولاده نعيم وألبير وإدوار.
إبصار النور والبدايات
نعيم باسيل حمامجي، وٌلدت بحلب في شهر شباط عام 1936. وأنا الذكر البكر لباسيل نعوم حمامجي، وسُمّيت على اسم جدّي، وكنت المدلل عنده4.
نلت ميرون معموديّتي في منزلنا على يد كاهن رعيّة السريان الرهاويّين الأرثوذكس القسّ يوسف قرياقس، لأنّ الكنيسة بالحيّ كانت ما تزال في طور البناء.
كنت أرافق أبي وجدي في زياراتهم المختلفة منذ أن كنت صغيراً، وما زالت بذاكرتي صور لتلك المرحلة، مثل اجتماع بعض شباب الحيّ في منزل عمّي جورج حول المذياع، لسماع أخبار الحرب العالميّة الثانية، وكنت حينئذ لم أتجاوز الثلاث سنوات.
ذهبت لمدرسة الفرير عام 1942، ولكنّها أُغلقت بعد خروج الفرنسيّين من سوريا عام 1946، واستكملت دراستي في مدرسة السريان، وكان مديرها الأستاذ أمين لوقا.
نلت شهادة السيرتفيكا عام 1949، وبعدها انتقلت إلى مدرسة التجهيز الأولى (المأمون حاليّاً)، وكان لها شهرة واسعة. من أساتذتها المعروفين أ. خير الدين الأسديّ، ولكنّ تلك السنة شهدت اضطرابات سياسيّة كبيرة، فلم تُستكمل الدراسة بها. وفي عام 1951 بدأت في مدرسة اللاييك، ولكنّي اضطررت إلى تركها عام 1953؛ بسبب ظروف والدي، حين فضّ الشراكة آنذاك مع شريكه الحلبيّ في باب جنين، كما ذكرت سابقاً.
سوف أذكر الآن بعض الأحداث العامّة الّتي شاركت بها في هذه المرحلة من حياتي.
تمّ تشكيل كشّاف السريان عام 1943، وكان السيّد أنطوان خوري من مؤسّسي الكشّاف بالحيّ، وبما أنّه تربطنا قرابة وصداقة، حضرت مع والدي توقيع إنشاء الكشّاف بالكنيسة في غرفة مدير المدرسة. ولأنّه كان يحبّني نسبني للكشّاف فوراً، وكنت أوّل (لوفتو) فيه (وهي المرحلة الأولى الّتي تحضّر الطفل لدخول الحياة الكشفيّة)، وارتديت القبّعة الكحليّة ذات الخطوط الصفراء، وشاركت مع الكشّاف في الجنازة الكبيرة الّتي أُقيمت للمرحوم المجبّر عازار غزال الأورفلي عام 1944 وهي شخصيّة رهاويّة معرفة جدّاً بحلب، وتزوّجت ابنة عمّي جوزفين من ابنه شوكت فيما بعد.
في عام 1951، أسّس الملفونو أبروهوم نورو أخويّة الإيتاس في كنيسة مار جرجس بحيّ السريان، وكلمة الإيتاس مختصر (اتحاد الطلّاب الشباب السريان)، وكانت تضمّ الطلّاب من الصفّ السادس حتّى البكالوريا. انضممت للأخويّة وشاركت باجتماعاتها الأسبوعيّة ورحلاتها ضمن مدينة حلب وحولها، كما أقامت كرمساً مشتركاً مع شبيبة كنيسة مار أفرام بالسليمانيّة، وكان ناجحاً جدّاً.
احتفالية خاصة بالإيتاس عام 1951 بوجود المطران يعقوب ( البطريرك يعقوب الثالث فيما بعد ) والراهب افرام عبودي
رحلة الايتاس الى سلقين ١٩٥١
عام 1953 تركت الدراسة بشكل نهائي، وبدأت العمل في محلّ عمّي جورج وعمي سامي بأجر شهريّ قدره 125 ليرة سوريّة، أُعطي منها لأمّي 100 ليرة، وأترك 25 ليرة كمصروف شهريّ، كما قام مدير نادي الشهباء بتعليمي أصول المحاسبة، كونه كان محتاجاً لمن يساعده بمراقبة مصروفات النادي، وكوني كنت شاطراً بالحساب في أثناء دراستي.
غادر أهلي حلب متوجهين إلى القامشليّ في نهاية 1954، بينما بقيت أنا في حلب أعمل عند أعمامي بمحلّ باب جنين، ومقيماً عند جدّتي بهيّة وعمّي سامي قبل أن يتزوّج، وفي صيف عام 1955 أُصبت بحرارة شديدة وألمّ بطني، وتمّ تشخص حالتي بأنها التهاب في الزائدة الدوديّة، وأجريت لي عمليّة استئصالها، ولكن للأسف كان التشخيص خاطئاً، وكنت بالأحرى مصاباً بالتيفوئيد (الحمّى التيفيّة) والّتي تُشابه بأعراضها التهاب الزائدة ومع تأخّر التشخيص أُصبت باختلاط من اختلاطات الحمّى التيفيّة والتهاب الوريد الخثريّ (جلطة) في ساقي اليمنى مع ألم شديد وتورّم في ساقي واحمرارها. أُصيبت بالذعر الراهبة المسؤولة عن الجناح عندما رأت الساق، وأخبرت فوراً د. فريشو عن حالتي، وقام د. فريشو بعلاجي والّذي استمر لمدّة شهر بالمشفى، ونقاهة في المنزل لمدّة 3 أشهر، وبقي هذا المرض يلازمني حتّى يومي هذا، وتسبّب في دخولي المشفى عدّة مرّات. وقبل عيد الميلاد سنة 1955، ذهبت مع جدّتي للقامشليّ، وبقيت فيها حتّى 5/15/ 1961.
مرحلة القامشلي: مرحلة تكوين الشخصية والقيم
بعد عدّة أسابيع من الراحة والاستجمام وقضاء الوقت مع العائلة في القامشلي، بدأت العمل في محلّ والدي بشارع القوتلي، وكنت مليئاً بالحماس والرغبة في العمل. للمرّة الأولى، سأكون مسؤولاً عن المحلّ بعد والدي.
وبعد عدّة أيام توقّفت. أمام محلّنا والّذي كان مجاوراً لفندق هدايا مجموعة من عشر سيّارات اللاندروفر وسيّارات الشحن، وعرفت أنها تحمل الموادّ الغذائيّة وآلات الحفر لشركة التنقيب عن النفط في موقع قره جوك قرب القامشلي، ويُعرف مديرها بمستر منهل ومعه مجموعة من الخبراء الأمريكان والمدير الماليّ للشركة (دمشقيّ من بيت خوري) ويقيمون مؤقّتاً بفندق هدايا، الّذي كان مجاوراً لمحلّنا، فبدأت محاولاتي بإقناعهم شراء احتياجاتهم الغذائيّة من محلّنا، ولكنّهم أخبرونا أنّهم يؤمّنون ما يحتاجون إليه من دمشق، ومع استمرار عرضيّ وإلحاحيّ لعدّة أيام، وافق مستر منهل على استجرار بعض الموادّ من محلّنا، فقمت بتجهيز الموادّ وفواتيرها، وكانت بقيمة 7000 ليرة سوريّة تقريباً، وأرسلتها لموقع الحفر.
ولكن في اليوم التالي دخل مستر منهل المحلّ غاضباً، وأنّ أسعارنا أخفض من أسعار الشركة الدمشقيّة المؤمّنة للموادّ بنسبة 25%، وهذه الطريقة مكشوفة لاستمالة شركة الحفر لمحلّنا، وبعدها نعود لرفع أسعارنا مستفيدين من انقطاع العلاقة مع الشركة الدمشقيّة، ونتحكم بهم.
فما كان منّي، إلّا أن أحضرت فواتير زبائننا بالقامشلي، وأظهرت له تشابه الأسعار المقدّمة لشركة الحفر والزبائن الآخرين، بل إنّه مُضاف لأسعار شركة الحفر 2% من السعر النهائيّ، أجرة النقل من القامشلي لقرّه جوك. اقتنع مستر منهل بكلامي، وبدأت الشركة باستجرار الموادّ الغذائيّة من محلّنا، بل وطلب منّا أيضاً تأمين اللحوم والخضار وبعض موادّ الحفر والنجارة. كنّا نستيقظ بالصباح الباكر لنؤمّن الطلبات، وننقلها بسيّارة بيك آب قديمة، كنا قد قمنا باستئجارها لهذا الغرض إلى قره جوك. كان التعاقد مع شركة مستر منهل انطلاقة موفّقة للعمل بالقامشليّ، وبعدها تعاقدنا لتأمين الموادّ الغذائيّة لشركتين ألمانيّتين للتنقيب عن النفط جنوب القامشلي في عامي 1957 و1959.
متجر والدي ـ القامشلي 1957
في عام 1958، استثمرنا مطعم ومقهى فندق هدايا بجانب المحلّ، فكنت أعمل بالمحلّ من الساعة السادسة صباحاً وحتّى ساعات متأخّرة من الليل في المطعم والمقهى، وخاصّة بعد التحاق أخي ألبير بخدمة العلم. كانت الأعمال تتطوّر بشكل جيّد، وسمحت لي بالتعرّف على شخصيّات اجتماعيّة وعسكريّة وأمنيّة في القامشلي، ولم يبعدني انشغالي بالعمل عن العمل المجتمعيّ للطائفة بالقامشلي.
ففي ليلة الميلاد عام 1958، أقام نادي الرافدين حفلاً ساهراً (بالو)، بمطعم فندق هدايا، وكان يجري بالحفل مزاداً أمريكيّاً للتبرّع للنادي، وعندما سألت المسؤولين عن الحفل عن قيمة ما يجمعونه من هذا التبرّع، قالوا إنّه لا يتجاوز ال 30000 ليرة سوريّة؛ لأنّ معظم المشاركين بالمزاد لا يدفعون المبالغ الّتي قدّموها. فطلبت من السيّد كريم أيّوب بشارة رئيس النادي أن أتولّى أنا صندوق الدفع، والمبلغ الّذي يُعلن بالمزاد يجب أن يُدفع، وإلّا أُعيد المزاد للمبلغ الّذي دفع قبله، وكانت طريقة ناجحة، حيث تم رفع قيمة التبرّع إلى 135000 ليرة سوريّة لصالح النادي.
هذه المبادرة والتدخّل الناجح من قبلي، رفعت أسهمي لدى السيّد كريم أيوب بشارة رئيس النادي، فطلب منّي الانضمام لقائمته الانتخابيّة في انتخابات إدارة النادي عام 1959، بمواجهة القائمة الطوريّة القويّة (معظمهم من الطوارنة وأغلبيّة سريان الجزيرة)، وكان انتصاراً ساحقاً لقائمتنا، ولم تُخترق إلّا باسم واحد5.
بهذه الإدارة الجديدة، استلمت في النادي المسؤوليّة الماليّة والمحاسبة، وأثناء مراجعتي لحسابات النادي، اكتشفت أنّ كافتريا النادي يديرها عاملان يقبضان الرواتب من النادي، ويستفيدان من واردات المقهى، فيما يدفع النادي فواتير الكهرباء والماء. بعد أن تمّ عرض تلك الحالة على إدارة النادي، تمّ تلزيم العاملين بدفع قيمة استثمارهما للكافتريا، ودفع فواتير الكهرباء والماء خلال فترة الاستثمار، ويحقّ لهم الاستفادة من عائدات الطلبات والمشروبات على أن يلتزموا بالحدّ الأدنى للتسعيرة لأعضاء النادي، وعدم قبض أي راتب من النادي. وبذلك أُضيف دخلاً جيّداً للنادي بالاستثمار الصحيح للكافتريا. علماً أنّه في عام 2009 وُجّهت لي دعوة من السويد لتكريم كوادر نادي الرافدين، ولكنّي رفضت تلك الدعوة، كونها لم تتضمّن دعوة زوجتي معي.
وفي حادثة أخرى حدثت أثناء الكرمس المُقام بالنادي، حيث حدث شجار بين لاعب كرة القدم بالنادي كبرو والمساعد قائد مفرزة الشرطة العسكريّة بالقامشلي، وكان يرتدي ملابس مدنيّة، بسبب تحرّش الأخير ببنات النادي. فطلب من عناصره القبض على كبرو، وأحدث ذلك حالة من الهرج والمرج في الكرمس، وطُلب منّي التدخّل لإنهاء الأشكال كوني على علاقة جيّدة من الشخصيّات الأمنيّة بالقامشلي. فقمت بأخذ المساعد لغرفة الإدارة، وقلت له: إنّنا نقدّر أفراد الجيش، ولكنّك قمت بعمل غير لائق، قد تواجه فيه ردّة الفعل الّتي تعرّضت لها، وخاصّة أنّك كنت ترتدي ملابس مدنيّة، ولم يتمّ التعرّف على شخصيّتك العسكريّة، وإذا لم تترك كبرو وشأنه سوف يصل الأمر لرؤسائك وجهات أمنية أخرى الّتي سوف تحاسبك على فعلتك تلك. فطلب منّي عدم إحراجه بإطلاق سراح كبرو أمام الناس في النادي، فقلت له: يمكنك أخذه معك، ولكنّه سوف يكون بالنادي بعد ساعة، ودون أن تؤذيه أو تتصرّف معه بطريقة سيّئة، فتعهد بذلك. وبعد ساعة كان كبروا بالنادي.
من روّاد المطعم بفندق هدايا، كانت إحدى الشخصيّات الأمنيّة المهمّة بالقامشلي. وفي يوم عيد الميلاد عام 1959، قدّمنا بالمطعم قطعة كيك وفنجان شاي لكلّ من تناول الطعام بالمطعم، كتقدمة منّا بمناسبة العيد. وبعد أن انتهت الشخصيّة الأمنيّة من غدائها، توجّه إليه عامل المطعم حاملاً قطعة الكيك والشاي، وقال له “هذه ضيافة من المطعم “، فردّت الشخصيّة بقسوة ” أنا لا أرتشي”، معيداً الكيك والشاي مع العامل، فتوجّه العامل إليّ، ونقل لي ما حدث، فما كان منّي إلّا أن توجّهت للشخصيّة، واعتذرت عن سوء التفاهم الّذي حصل، وأنّ هذه الضيافة قُدّمت لكلّ من تناول الطعام بمطعمنا بمناسبة عيد الميلاد، وليست فقط له. شعرت الشخصيّة بصدق كلامي، فقبل الضيافة شاكراً ومباركاً العيد، وطلب منّي الجلوس معه على الطاولة، وتبادلنا أطراف الحديث، وأصبحنا من بعدها أصدقاء، وساعدني كثيراً في أثناء إقامتي بالقامشلي وتأمين سفري لألمانيا للعلاج عام 1960.لم تكن مرحلة إقامتي بالقامشلي مرحلة عاديّة بحياتي، بل كانت مرحلة بناء الشخصيّة والثقة بالنفس.
نعيم يتوسط الصورة في مطعم فندق هدايا -القامشلي ١٩٥٨
فلأوّل مرّة أكون صاحب قرار بالعمل بعد أن كنت أجيراً. واستطعت مع أبي وإخوتي أن نُعيد بناء حياتنا التجاريّة بوقت قياسيّ، فخلال 3 سنوات من الإقامة في القامشلي، تحسّنت أحوالنا المادّيّة، وبدأنا نعود للسكّة الصحيحة بعد النكسة الماليّة لوالدي بحلب. لم يكن ذلك مستغرباً من رهاوي يؤمن بالقيامة المجيدة والحياة المتجدّدة ومتسلّحاً بالصدق ومحبّة الناس. ممّا فتح أمامي أبواب الشركات والرزق الحلال فالإيمان والصدق، أعطياني ثقة بالنفس للتفاوض ومناقشة كبار أصحاب الشركات، كما حدث مع مستر منهل وإدارة نادي الرافدين) والشخصيّات المهمّة الأخرى، وأيضاً كما حدث مع الشخصيّة الأمنيّة والمساعد بالشرطة العسكريّة ومتجاوزاً قصوري التعليميّ.
لقد أصبح الإيمان والصدق، والثقة بالنفس والمستقبل، من ثوابت حياتي، وانتقلت معي لحلب فيما بعد، وما زالت معي حتّى لحظة كتابتي لهذه السطور.
مرحلة حلب – العمل والنجاح
عدت لحياتي المهنيّة بحلب، بعد أن اشترينا مع إخوتي حصّة عمّي جورج من محلّ باب جنين، واستأجرت بيتاً في محلّة الإطفائية القديمة بحلب، وأقامت معي خالتي بهيّة القادمة من بيروت، وأختي لورة القادمة من القامشلي.
في كانون الأوّل عام 1963، تزوّجت من السيّدة أيلين طاشجي كربوش، ابنة الشمّاس حنّا، ورُزقنا بأوّل أولادنا باسيل نعيم حمامجي في أيلول 1964، ثمّ أنجبنا فهد نعيم حمامجي في تشرين الثاني 1966، والولد الثالث فارس نعيم حمامجي في شباط 1971. كانت هذه الفترة التاريخيّة عاصفة بالتغيّرات السياسيّة والاقتصاديّة والحروب، وكان همّي الوحيد حينها هو العمل والعائلة.
استمريت بالعمل مع عمّي سامي في محلّ باب جنين، وكرّست وقتي بعد العمل للعائلة، أُنمي في وجدانهم حبّ اللّه والوطن، والأمل بالمستقبل، والاهتمام بالعلم والدراسة والتثقيف الذاتيّ، بمساعدة زوجتي القديرة والّتي كانت بجانبي دوماً بالسرّاء والضراء. اهتمّت بزوجها وبتربية أولادنا وصحّتهم ودراستهم، وكان لها الفضل في تفوّقهم الدراسيّ، حيث كانت تحثّهم على القراءة، وتطلب منّي مكافأتهم بمبلغ مادّيّ عند انتهائهم من قراءة الكتاب وتلخيصه. ووجدت نفسي في بيت هانئ، أركض إليه بعد انتهاء عملي لأعيش أجمل اللحظات مع زوجتي وأولادي الثلاث.
عام 1971، انتقلنا لمنزل جديد في محلّة محطّة بغداد في الشقّة الّتي تعلو بيت عمّي سامي، ولكنّ الحزن أبى إلّا أن يطرق بابنا، فتُوفّي أبي ونقل جثمانه لحلب، ودُفن في مدفن العائلة مع جدّي وجدّتي.
على الرغم من انقطاعي عن شؤون الطائفة بحيّ السريان، إلّا أنّي كنت مواظباً على حضور القدّاس الإلهيّ يوم الأحد مع عائلتي، وأقف مع شباب الحيّ بعدها، أو نجلس بصالة الأوندالغ، لأسمع أحوالهم وأشاركهم أفراحهم وأحزانهم، دون تدخّل مباشر في شؤون الطائفة، فالمرحلة تلك كانت مرحلة العمل والعائلة.
في عام 1966، دخلت المجلس المليّ لمرعيث مار جرجس، وكان نائب الرئيس السيّد توفيق قلايجي، ولكنّي لم أستمرّ فيه إلّا بضعة أشهر، وكُلّفت خلالها بمتابعة تعيين مدرّسين اثنين بمدرسة بني تغلّب الثانية. وكانت لجنة المدرسة مؤلّفة من السيّد بيير عبد المجيد خوري والسيّد بهجت غزال، والسيّدة أنجيل استنبولي. ولأوّل مرّة تمّ التعيين اعتماداً على معايير محدّدة، من بينها الدراسة السابقة بمدرسة السريان، والإلمام باللغة السريانيّة، ووُضعت علامات لهذه المعايير، وكانت للّغة السريانيّة 30 علامة وباقي المعايير 70 علامة، وأُجريت المسابقة بإشراف مديرة مدرسة الأمريكان للبنات (مسز أسمر). وتأهّلت آنستان هما، الملفونيثو فريدة بولص الملفونيثو جانيت طاشجي.
مرحلة العمل بالشأن العام لمرعيث مار جرجس للسريان الأرثوذكس بحلب
في عام 1975، أصبحت جاهزاً للعمل مادّيّاً وثقافيّاً في خدمة الطائفة، فدخلت المجلس المليّ لمرعيث مار جرجس برئاسة المطران جرجس بهنام، وكان نائب الرئيس السيّد ذكي خربوطلي. وفي تلك الأيام فرز البطريرك مار يعقوب الثالث المطران أفرام عبودي إلى حلب لمساعدة المطران جرجس كونه أصبح طاعناً بالسنّ، وخاصّة أنّ المطران عبّودي كان بحلب في فترة الخدمة الرهبانيّة ومطّلع على شؤون الطائفة عموماً.
كان المطران الشابّ محبوباً من أهالي حيّ السريان، فقامت مجموعة من شباب الحيّ بالمطالبة بتعيينه مطراناً على كنيسة حيّ السريان، ولكنّ المجلس المليّ للحيّ رفض ذلك بشدّة، واعتبرها فتنة ووئدت إلى الأبد، وبقيت حلب أبرشيّة واحدة، وعلى رأسها مطراناً واحداً هو المطران جرجس بهنام، وبقي المطران عبّودي مساعداً له، لكنّ الأمور تطوّرت فيما بعد، فبعض الشباب والشمامسة بالحيّ غالوا في رفض المطران عبّودي، ووصل لمسامع المجلس يوم الجمعة العظيمة أنهم سيمنعون المطران عبّودي من دخول الكنيسة، وإذا دخلها فإنهم سيمتنعون عن حمل التابوت أثناء الدورة، كما كان سائداً في يوم الجمعة العظيمة بكنيستنا.
طُلب منّي التدخّل لإنهاء الموضوع، فقمت باستدعاء شباب من النادي، ووضعت لهم أوشحة تنظيم القدّاس، ووزعتهم على مداخل الكنيسة وبداخلها، فخاف الشباب المثيرين للمشكلة وانسحبوا من الكنيسة، وكنت أيضاً قد جهّزت مجموعة من العسكريّين من أبناء الحيّ وبلباسهم العسكريّ، لحمل التابوت أثناء الدورة، ممّا أعطى هيبة وتبجيلاً للدورة، ولقيت استحسان الشعب لتصبح بعدها عادة أن يحمل عسكريّون من أبناء الطائفة بلباسهم العسكريّ، تابوت السيّد المسيح يوم الجمعة العظيمة ولسنوات عدة.
مع بدايات الحرب اللبنانيّة، طُلب منّا دعم أهل زحلة خلال حصار المدينة، ولكنّ المجلس اعتذر عن ذلك حتّى لا ندخل بسجال سياسيّ وعسكريّ مع الأطراف المتحاربة في وقت كانت المعالم السياسيّة غير واضحة. لم يدم هذا المجلس طويلاً، وانحل بعد سنة ونصف من تشكيله.
عام 1978 اشتريت بيتاً في منطقة السريان الجديدة، وكانت منطقة حديثة تشهد حركة من العمران المزدهر، وانتقلنا إليه في بدايات عمّ 1980.
مرحلة نيافة البطريرك المثلث الرحمات مار أغناطيوس زكا الأول عيواص ونيافة المطران المغيب مار يوحنا أبراهيم
عام 1979 رُسم المطران يوحنّا إبراهيم، مطراناً على أبرشيّة حلب وتوابعها، بعد استقالة المطران المغفور له جرجس بهنام، بسبب كبر سنّه، في زمن المجلس المليّ الّذي كان فيه نائب الرئيس السيّد بيير يوسف خوري. وفي السنة التالية أي في عام 1980، انتُخب البطريرك زكا الأوّل عيواص بطريركاً لأنطاكيّة وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس والرئيس الأعلى للسريان بالعالم، بعد وفاة مثلّث الرحمات البطريرك يعقوب الثالث.
كانت هذه المرحلة حافلة في تاريخ الأبرشيّة، حيث رُفع شأن الأبرشيّة إلى مقام عال على الصعيدين المحلّيّ (ضمن حلب) والقطري (الجمهوريّة العربيّة السوريّة) والدوليّ أيضاً، ذلك بفضل جهود المطران يوحنّا إبراهيم، الّذي تمتّع بعلم وإصرار على التطوير، وأظهر شخصيّة شبابيّة منفتحة. تطوّرت علاقات الأبرشيّة، وتوسّعت لتشمل الطوائف المسيحيّة الأخرى وأصحاب القرار في المحافظة والقطر، وحتّى على الصعيد العالميّ. وقد امتلأت هذه المرحلة بإنجازات عديدة، الّتي تناولتها بشكل أساسيّ.
عُيّنت بالمجلس المليّ لمرعيث مار جرجس بحلب عام 1980، وكان أوّل مجلس برئاسة المطران يوحنّا ونائب الرئيس السيّد جورج بيدان. والمهمّة الأولى الّتي أوكلت لي بهذا المجلس كانت تنظيم رحلة إلى دمشق للمجلسين الملّيّين بحلب، برئاسة المطران يوحنّا، للمباركة بتنصيب البطريرك زكا الأوّل عيواص ونيل بركته. كانت رحلة ناجحة بامتياز برأي جميع المشاركين، وتوّجت بغداء فخم في نادي الشرق بدمشق على شرف صاحب القداسة البطريرك الجديد، وكانت كلّ مراحل الرحلة بإشرافي الشخصيّ التامّ.
ترميم كنيسة مار جرجس في حيّ السريان والليرة الذهبيّة
عام 1981، أقرّ المجلس المليّ لمرعيث مار جرجس، إعادة تأهيل كنيسة مار جرجس بعد 50 سنة من إنشائها، وخاصّة الإنارة والثريّات وتمديد التدفئة المركزيّة، إضافة لتزيينها بأيقونات على الشبابيك، كما أُقرّ استبدال المذبحين الخشبيّين الموجودين على جانبي المذبح الرئيسيّ، بمذبح حجريّ بعد أن بدأ السوس يأكل خشبها. ولتأمين الأموال اللازمة لهذا الترميم، والّتي قُدّرت بحوالي 200 ألف ليرة سوريّة، اقترحت مشروع الليرة الذهبيّة، وبيعها لأبناء الطائفة لتسديد تكاليف إعادة الترميم، وخاصّة أنّ شعبنا يميل إلى شراء الذهب لادّخار أمواله.
وبعد الموافقة على المشروع، اتّفقت مع صائغ أرمنيّ على تصميم وصنع قالب الصبّ. وكانت الليرة من الذهب عيار 22 وبوزن 7,9 غراماً، رُسم على وجهها الأماميّ صورة جانبيّة لرأس سيّدنا البطريرك زكا، وعلى الوجه الآخر صورة كنيسة مار جرجس بحلب مع تاريخ التأسيس 1932 وتاريخ التأهيل 1982. وكانت كلفة الليرة الواحدة 800 ليرة سوريّة، وقرّرنا بيعها بـ 900 ليرة سوريّة بربح قدره 100 ليرة تُخصّص لصندوق إعادة التأهيل.
تمّ صبّ 2000 ليرة على دفعات كلّ دفعة 100 ليرة ذهبيّة، وتولّيت بيعها بحلب، فبعت 240 ليرة، بينما قام سيّدنا المطران يوحنّا ببيع الباقي في الأبرشيّات السريانيّة الأخرى بسوريا والمهجر.
مع توفّر المبلغ بدأنا بإعادة التأهيل. فكُلّف المهندس سمير قاطرجي بالتصميم والإشراف على إنشاء الهيكلين الجانبيّين، وزُيّن الهيكل الأيمن بحجرة أثريّة أحضرها بعض الشباب السريان الغيورين من دير تلعدا الأثريّ السريانيّ قرب حلب.
الليرة الذهبية لمشروع ترميم كنيسة مار جرجس بحي السريان ١٩٨١
إنشاء مركز التربية الدينيّة لمرعيث مار جرجس للسريان الأرثوذكس بحلب
اتّخذ المجمع المقدّس للسريان الأرثوذكس عام 1981، قراراً بإنشاء مراكز التربية الدينيّة في أبرشيّات الطائفة عامّة. تمّ إنشاء المركز في كنيسة مار أفرام بحلب، ولكنّ المطران يوحنّا قام بتأجيل إنشائه في كنيسة مار جرجس، بالرغم من مطالبتي المتكرّرة له في اجتماعات المجلس وبجلسات شخصيّة، بتشكيل المركز في الحي أيضاً. ولكن مع استمرار إلحاحي، التفت إليّ وقال بلهجة حازمة، “سننشئ المركز بالحيّ، ولكن بشرط أن تترأسه.”
في البدء اعتذرت؛ لأنّ المرعيث فيه العديد من الشخصيّات، ومن أصحاب الشهادات العلميّة والجامعيّة، والّذين يُعتبرون أكثر تأهيلاً منّي في إدارة هذا المركز، وأنا صاحب الشهادة الابتدائيّة، ولكن مع إصرار سيّدنا على موقفه، وافقت بشرط أن يُساعدني شخص يحمل شهادة جامعيّة مقترحاً اسم المهندس جورج قاطرجي. وافق سيّدنا على ذلك كما وافق المهندس جورج، وبدأنا الاجتماعات مع الأب شكري توما للتحضير ووضع أسس العمل لهذا المشروع وهو “إنشاء مركز التربية الدينيّة لمرعيث مار جرجس”.
من أحد نشاطات مركز التربية الدينية لمرعيث مار جرجس ١٩٨٤
أعضاء إدارة مركز التربية الدينية لمرعيث ما جرجس ١٩٨٤
لكنّ المهندس جورج استنكف عن العمل بعد فترة، فتابعنا أنا والأب شكري المشوار، وقمنا بتأسيس أخويّة الجامعيّين، ثمّ الأحديّة والأيماس والأيتاس، وصولاً لأخويّة الخرّيجين الجامعيّين وأخويّة المرأة عام 1984، وقد استغرق هذا العمل حوالي السنتين من العمل الدؤوب.
تمّ تشكيل إدارة المركز والمؤلفة من نعيم حمامجي رئيساً والمهندس المرحوم عفيف دكرمنجي نائباً للرئيس والأب شكري توما والأب جورج كلور ولاحقاً الأب أنطوان دلي أبو، رؤساء الأخويّات. وفي عام 1985 تمّت إضافة أخويّة مار غريغوريوس للمهنيّين والحرفيّين، وأصبح المركز يضمّ فعاليّات المرعيث بكافّة الأعمار والشرائح الاجتماعيّة والمهنيّة والعلميّة.
في البدايات كانت الأخويّات تجتمع في مبنى المدرسة القديم، ذلك خارج أوقات الدوام الرسميّ للمدرسة، وتستخدم باحة المدرسة لنشاطاتها، في حين كان البناء المقابل للباب الجانبيّ للكنيسة (والّذي أصبح فيما بعد الباب الرئيسيّ للكنيسة)، تابعاً لنادي الجلاء الرياضيّ بعد قرار دمج النوادي الرياضيّة، فأصبح نادي الشهباء الرياضيّ بمقرّه هذا جزءاً من نادي الجلاء، وبقي أهل الحيّ يمارسون رياضة كرة الطائرة في باحة الكنيسة (وكانت من الرياضات الناجحة)، وكرة القدم في الملعب بالأرض التابعة للخدمات الفنّيّة أمام منزل المرحوم سليم قولتقجي حاليّاً، وكرة الطاولة في غرف المقرّ. ومع تراجع الاهتمام بهذه الرياضات من قبل إدارة نادي الجلاء، تحوّل المقرّ لمقهى يرتاده الرياضيون القدامى، وبعض الأشخاص ممن لا عمل لهم.
في بداية الثمانينات قرّر فرع الاتّحاد الرياضيّ العامّ بحلب، منح المقرّ لاتحاد شبيبة الثورة، ولكي تستعيد الطائفة المبنى، ولكي لا يضع فرع شبيبة الثورة يده على المقرّ، تقرّر تحويله مقرّاً لمركز التربية الدينيّة لكنيسة مار جرجس، بعد مفاوضات شاقّة مع فرع الاتّحاد الرياضيّ وفرع شبيبة الثورة بحلب.
بدأت اجتماعات الأخويّات تُعقد فيه، ولكنّ روّاد المقهى استمرّوا بالتوافد على المقهى؛ ممّا كان يحدث إزعاجاً للمجتمعين بسبب أصواتهم العالية وأحياناً الكلمات البذيئة الّتي تصدر عنهم. حتّى يوم الافتتاح الرسميّ للمركز، والّذي كان مقرّراً في أثناء زيارة سيّدنا البطريرك زكّا الأولى لحلب، وتمّ التحضير له من قبل لجنة مؤلّفة من كلّ الأخويّات وأعضاء لجنة المركز.
مع بداية القدّاس الإلهيّ وقبل الافتتاح، حضر بعض الشباب المسؤولين عن الأخويّات، وأخبروني أنّ روّاد المقهى بدأوا بالتوافد على المركز، ورفضوا الخروج منه، بالرغم من طلب الشباب منهم ذلك بكلّ أدب، وشرحهم بما يقومون به. فتوجّهت للمركز ووقفت عند الباب، وبدأت أنادي هؤلاء الروّاد، وكلّ باسمه بصوت عال أطلب منهم المغادرة “يا فلان طلاع لبرى”، وبعد خروجهم جميعاً أقفلت باب المركز بجنزير حديديّ، وتوجّهت لسيّدنا المطران يوحنّا، وأخبرته أنّ الافتتاح قد أُلغي دون أن أشرح له السبب، ووافقني المطران لأنّه كان متأكّداً أنّ شيئاً ما حدث، وأنّني تصرّفت بما يُناسب الحالة. وبعد مغادرة سيّدنا البطريرك حلب، اجتمعت مع سيادة المطران يوحنّا، وشرحت له ما حدث، فأصدر سيّدنا بيومها قراراً يمنع فيه دخول المركز لغير المنتسبين إليه؛ ومن ثم طُويّت صفحة النادي والمقهى وروّاده إلى الأبد.
استمرّت رئاستي للمركز حتّى عام 1987، وتركته بسبب العارض الصحّيّ الّذي أُصبت به (الجلطة الدماغيّة) في آب 1987. يومها كنت قد في السوق لأشتري فرن مطبخ وبرّاداً للعقار الّذي اشتراه سيّدنا بمنطقة كسب، والّذي كان يُحضّر ليصبح ديراً للنشاطات الصيفيّة، لكلّ الأخويّات والكشّاف من الكنيستين مار أفرام ومار جرجس، بدلاً من استئجار الأديرة والمقرّات من الطوائف الأخرى، كما كنت قد أوصيت على ضيافة حفل تكريم طلّاب البكالوريا الّذي سيُجرى في مساء ذلك اليوم برعاية مركز التربية الدينيّة، فذهبت لأخذها وبعد ذلك توجّهت للمحلّ، فلاحظ أخي ألبير أنّي مشوّش الذهن، وأنّ كتابتي للفواتير، ودفتر الحسابات كانت غير مفهومة، فطلب منّي الذهاب للبيت للراحة.
تكريم الناجحين بالشهادة الثانوية
أحد الاجتماعات للمجلسين المليين لمرعيث مار أفرام ومرعيث مار جرجس برئاسة المطران يوحنا إبراهيم
عندما وصلت للبيت لاحظ ابني باسيل أنّ فمي منحرفاً لليسار وأنّي مشوّش ذهنيّاً وكلامي غير مترابط وغير مفهوم، فأخذني لمشفى الكلمة واستشار د. ليون فهدي أخصّائيّ الأمراض العصبيّة وأستاذه بالجامعة، وبعد فحصي سريرياً طلب الدكتور فهدي تصويراً للدماغ بالطبقيّ المحوريّ، وتمّ تصويري إسعافياً وشخّص الحالة بجلطة صغيرة بالدماغ، وبعد أن اطّلع د. فهدي على الصورة طلب منّي البقاء بالمشفى للعلاج لمدّة 15 يوماً، إلّا أنّ ابني باسيل طلب منه أن يوافق على علاجي بالمنزل، ويقوم بإعطائي العلاج الّذي يصفه د. فهدي مع التواصل الدائم معه، وبعد عدّة أيّام بدأت بالتعافي والتحسّن التدريجيّ.
خلال فترة نقاهتي زارني المطران يوحنّا ومعه الآباء الكهنة الأفاضل وأعضاء المجلس المليّ – كوني عضواً بالمجلس آنذاك – للاطمئنان عليّ، وأثناء الزيارة طلبت من سيّدنا المطران يوحنّا إعفائي من رئاسة المركز؛ بسبب وضعي الصحّيّ وعدم تحمّلي لضغط العمل.
كما زارني أعضاء لجنة مركز التربية الدينيّة، للاطمئنان عليّ وأنّ العمل بالمركز مستمرّ بشكل جيّد كما تمّ التأسيس له، مع شكرهم لي للجهود الّتي بذلتها خلال فترة ترأسي للمركز.
بعد تحسّن وضعي الصحّيّ، وبعد فترة نقاهة طويلة، عدت للعمل في منطقة باب جنين وحضور اجتماعات المجلس المليّ، واستمر عمل هذا المجلس حتّى نهاية 1989.
في بداية 1990 شاركت بالمجلس المليّ لمرعيث ما جرجس بحلب، وكان نائب رئيس المجلس المرحوم سليم قولتقجي، واستمرّ هذا المجلس حتّى عام 1992.
لم أشارك بعدها بالعمل المجتمعيّ للطائفة حتّى عام 1997، والسبب أنّني افترقت بشراكتي عن أخوّتي ألبير وإدوار، وبدأت بتأسيس عمل جديد بمشاركة أبني فارس، وكان قد أصبح بعمر العشرين تقريباً، وابن حماي السيّد استيفان طاشجي. كانت المرحلة ضاغطة جدّاً لم تسمح لي بالمشاركة بالشأن العامّ للطائفة، فاشتريت محلّاً في طلعة الجمارك بحيّ السريان، واستأجرت مستودعاً وبدأت بالعمل الجديد.
في عام 1997 قاطع سيّدنا المطران يوحنّا حيّ السريان، ولم يعد يحضر اجتماعات المجلس المليّ وحتّى لم يكن يصلّي بالكنيسة، بسبب خلافه مع المجلس وتجاوزه بموضوع الوقف الكنسيّ، ووقوف أعضاء المجلس مع المستفيد من هذا التجاوز. حاولت التوسّط مع سيّدنا المطران لحلّ هذا الإشكال، فوافق بشرط أن ينحلّ المجلس، وأصبح أنا نائباً للرئيس فيه، ولكنّني اعتذرت عن ذلك لكي لا أعادي أعضاء المجلس القديم متحجّجاً بانشغالي بالعمل، وحجّتي القديمة المستهلكة أنّ شهادتي الدراسيّة لا تسمح لي بتجاوز أصحاب الشهادات في المرعيث. حتّى أتاني عنصر من الأمن السياسيّ بحلب، والمسؤول عن الطوائف المسيحيّة، وقال لي عليك استلام المنصب؛ لأنّ موضوع المطران والحيّ أخذ ضجّة كبيرة، وأنّني المرشّح الوحيد من المطران والجهات الأمنيّة لذلك. فوافقت على الاستلام، وتأسّس المجلس المليّ الجديد في 30/11/1997 برئاسة سيّدنا المطران يوحنّا إبراهيم والسيّد نعيم حمامجي نائباً للرئيس، المهندس يوسف مقديس أنطون، المهندس عبد الكريم مانوق، المهندس فريد بردقجي، المهندس غسّان شوكت غزال، السيّدة ملكة حنّاوي، السيّد بيير حجّار، السيّد كرياكوس باندك، السيّد صليبا كلاح والسيّد ريمون موصللي، واستمرّ المجلس بالعمل حتّى 3/3/2000.
الحقيقة أنّنا استلمنا مجلساً مُتعباً، في صندوقه على مبلغ لا يتجاوز ال 14000 ليرة سوريّة، والكثير من المشاكل الّتي تحتاج إلى التصحيح. منها مشكلة أوقاف سوق الصاغة ومشكلة مدير مدرسة بني تغلّب الثانية، وتمّ إيجاد حلول لهذه المشاكل بتضافر جهود أعضاء المجلس، وإعادة الأموال لصندوق المجلس وإقناع مدير المدرسة بتقديم استقالته، وتمّ تعيين الملفونيثو سارّة دوغرامجي زوجة الأب جورج كلور مديرة للمدرسة، وأبلت فيها بلاء حسناً. كما تابعنا العمل ببناء المدرسة الّتي تبرّع بتكاليف بنائها السيّد جان كلور، وكنّا قد اشترينا أرضاً جانب بيت طرقجي بمبلغ 10 ملايين ليرة سوريّة لتُضمّ لاحقاً للمدرسة.
في عام 1998 أصيب المطران يوحنّا بعارض صحّيّ، وتمّ تشخيص حالته من قبل الدكتورة آمال – زوجة ابني باسيل – بورم دماغيّ سليم، فذهب للولايات المتّحدة لاستئصاله، وقبل دخوله غرفة العمليّات اتصلت به لأطمئنّ على معنويّاته، فكانت مرتفعة وموكّلاً أمره للّه ولابنه الحبيب سيدنا يسوع المسيح، فدعوت له بالشفاء.
بعد انتهاء العمليّة، والّتي كانت دقيقة جدّاً، حيث استمرّت لعدّة ساعات، اتّصل بي المطران أفرام كريم (البطريرك الحاليّ)، وكان التلميذ الحبيب لسيّدنا يوحنّا ومرافقه خلال فترة العلاج بأمريكا، (تربطنا به عائليّاً علاقة مودّة واحترام، وخاصّة أنّه كان بحلب لعدّة سنوات عندما كان راهباً) وطمأنني بنجاح العمليّة الجراحيّة، وأنّني أوّل شخص اتصل به بعد أهل المطران كما طلب منه سيّدنا قبل دخوله لغرفة العمليّات.
لم تكن علاقتي بسيّدنا المطران يوحنّا علاقة عاديّة بين رئيس ومرؤوس، بل كانت علاقة أخويّة صادقة، إذ كنت من المقرّبين له، بل من الدائرة الصغيرة المحيطة به، كنت أرى فيه راعياً صالحاً، يعمل لأجل رعيّته السريانيّة الأرثوذكسيّة والمسيحيّين عامّة بحلب، بل بسوريا كلّها، أمّا هو فكان يراني شخصاً ملتزماً وصادقاً، موثوقاً وغيوراً على مصلحة الطائفة عامّة، وعلى الرعيّة السريانيّة بحيّ السريان، يُناقش بما هو مهمّ لصالح طائفته، ويبذل بحكمة الجهود الحثيثة للقيام بالمهمّة المكلّفة به على وجه الدقّة.
وهذه مقتطفات عمّا كتبته عن نيافته في كتاب “أمير السريان” الّذي صدر بمناسبة اختطافه:
تعرّفت على المطران يوحنّا إبراهيم بعد رسامته مطراناً لأبرشيّة حلب وتوابعها وتشكيله لأوّل مجلس مليّ لمرعيث مار جرجس بحلب، وكنت عضواً فيه، وبالرغم من صغر سنّه كنت أرى فيه شابّاً ذا شخصيّة طموحة وقيادة حازمة، ولفتني تواضعه ومحبّته للناس، وقبوله لأفكار واقتراحات العلمانيّين في الرعيّة، وسرعة اتّخاذه القرار وتنفيذه.
ـ العمل مع سيّدنا المطران يوحنّا، وبالرغم من تقدّمي بالسنّ، يُشعرك دوماً بالنشاط وعزيمة الشباب.
– كان دائماً متفانياً ووفيّاً في خدمة رعيّته، وجعلها الأفضل بين الطوائف المسيحيّة بحلب والأبرشيّات السريانيّة بالعالم، ولا أعتقد أنّ هناك مسيحيّاً بحلب لم ير أو يشعر بذلك.
يا ربّ: كما كرّمتنا يوماً برسامة سيّدنا المطران يوحنّا إبراهيم لمرعيث حلب، أعده لنا ثانية سالماً ومعافى، ليكمل مسيرته الّتي رسمتها له، وأنت على كلّ شيء قدير”.
رحلة إيطاليا والحصول على نسخة من منديل السيّد المسيح ومباركة قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني للمنديل والرحلة
في عام 1999، أعلن سيّدنا المطران يوحنّا عن رحلة – تهمّ الرهاويّين خاصّة – إلى إيطاليا لزيارة كنيسة منديل السيّد المسيح، وطلب منّي تسجيل أسماء المشاركين، وقبض رسوم الرحلة منهم. وكان المطران يوحنّاً قد نسّق مع جمعيّة دينيّة إيطالية لتنظيم هذه الرحلة بأدقّ تفاصيلها والكلف الماليّة لها.
قبل السفر اعتذرت منه على عدم قدرتي على السفر؛ بسبب جرح مزمن على ساقي اليمنى المصابة بالجلطة (أسماها ابني د. باسيل “قرحة ركوديّة”، وتحدث كاختلاط للركودة الدمويّة بالطرف المصاب بالشكل المزمن لالتهاب الوريد الخثريّ الّذي كنت قد أصبت به في شبابي)، وأنّ الراحة ورفع الطرف هو العلاج الوحيد لها والسفر الطويل قد يسيء إلى الإصابة، ولكنّ سيّدنا أصرّ على سفري، وقال لي بالحرف الواحد “على من سأعتمد إن لم تكن معي؟”، فوافقت على الذهاب بشرط أن أريح نفسي كلّما سنحت لي الفرصة، وقد لا أشارك في بعض النشاطات.
قصّة المنديل معروفة في الكتابات المسيحيّة، وهي أنّ أبجر الملك – ملك الرها – والمصاب بمرض جلديّ، قد سمع بنبيّ في أورشليم يشفي المرضى، فأرسل رسّامه إلى هناك ليرسم هذا النبيّ، عندما رآه السيّد المسيح وبيده منديلاً وقطعة فحم للرسم، أمسك بالمنديل ومسحه على وجهه الطاهر، فرُسمت صورته عليه، فقدم إليه الرسّام، وطلب منه الذهاب معه للرها لشفاء الملك، وأنّ الملك مستعدّ لمشاركته الحكم فيها. فأرسل السيّد المسيح معه أحد تلاميذه ليشفي الملك أبجر من مرضه باسم السيّد المسيح.
احتفظ الرهاويّون بالمنديل لقرون طويلة، مؤمنين بالسيّد المسيح، وبقدرة هذا المنديل على شفاء المرضى وحماية الرُّها وشعبها من الأخطار والويلات. وتذكر الروايات كيف أنّ الطاعون ضرب جيش الفرس على أسوار الرُّها، ولم يدخلها المرض، عندما رفع الرهاويّون المنديل على سارية أعلى نقطة بقلعة الرُّها.
نقل الروم المنديل للقسطنطينة، وعندما سقطت بيد العثمانيّين، نقله تجّار أرمن لكنيسة بنوها في “جنوى” في إيطاليا، لحمايته من تدنيس العثمانيين له. وبعد أن قلّ عدد الأرمن في جنوى تحوّلت الكنيسة لأملاك الفاتيكان، وسُمّيت بكنيسة المنديل وهو محفوظ بخزنة حديديّة في أقبية الكنيسة، تُفتح في يوم معيّن من السنّة لعرضه باحتفال خاصّ، على جماعة المؤمنين والتبرّك منه، ليعاد لصندوقه الحديديّ للسنة التالية.
توجّهنا من حلب لدمشق بالحافلة، وكان قد تمّ حجز المقعد الخلفيّ كلّه لي، لأجلس وأرفع ساقي المصابة، ثمّ بالطائرة من دمشق للقاهرة، فأقمنا فيها لمدّة يوم واحد في فندق الشيراتون. زار خلالها المطران والمشاركون بطريرك الأقباط، ولكنّني بقيت في الفندق للراحة. في اليوم التالي غادرنا المطار متوجهين إلى روما، وذهبنا في اليوم التالي لجنوى مكان كنيسة المنديل بمرافقة شبّان الجمعيّة الإيطالية، ولمّا علم مسؤولو الكنيسة، وبالتنسيق مع الجمعيّة الإيطالية، بأنّنا أحفاد سكّان الرها الموطن الأصليّ للمنديل، تمّ إخراج المنديل من الصندوق، وكان محاطاً بإطار من الذهب، باحتفال مُهيب، شاركنا فيه مع سيّدنا المطران بالصلوات والتراتيل السريانيّة الرهاويّة، وتباركنا من المنديل، وأُعطيت لنا نسخة من المنديل لنقله لكنيستنا في الحيّ، كوننا ورثة هذا الأثر المسيحيّ، وقالوا أنّ من واجبهم إعادة المنديل لأصحابه الأصليّين، ولكنّهم محافظون عليه كما حافظ الرهاويّون والروم والأرمن عليه.
وبعد جولة بالكنيسة التاريخيّة وجولة بجنوى، غادرنا هذه المدينة الجميلة، واستكملنا جولتنا السياحيّة بإيطاليا، فزرنا البندقيّة وبرج بيزا والمناطق السياحيّة بروما حتّى يوم الأربعاء لنتوجّه إلى حاضرة الفاتيكان، ففي كلّ يوم أربعاء وبحسب التقليد السائد فيها، يُقيم البابا قدّاساً إلهيّاً كبيراً لزوّار وحجّاج الفاتيكان، وبالتنسيق مع المسؤولين هناك وعن طريق سيّدنا المطران يوحنّا، شاركنا بالقدّاس الّذي أقامه قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني، وجلسنا على المنصّة الرئيسيّة المخصّصة لكبار الضيوف، وتمّ الترحيب بنا من قبل قداسته على أنّنا أبناء الرها أوّل مملكة تؤمن بالسيّد المسيح، وبعد القدّاس استقبلنا قداسته، وبارك نسخة المنديل، وباركنا فرداً فرداً، وتمّ أخذ صور تذكاريّة جماعيّة معه.
وفي اليوم التالي، عدنا لسوريا عبر القاهرة ونحن مبهورون من الحفاوة الّتي أحاطتنا في هذه الرحلة، ولمسنا المكانة التاريخيّة والدينيّة لموطننا الأصليّ الرُّها، وأنّنا ورثة هذه المدينة. بعد ذلك تمّ وضع المنديل في كنيسة ما جرجس، وتبارك منه الرهاويّون باحتفال دينيّ خاصّ لهذه المناسبة، ترأّسه سيّدنا المطران يوحنّا.
كنيسة المنديل
كان قرار بناء كنيسة المنديل في حرم كنيسة مار جرجس، قد اتُّخذ خلال فترة التحضير لرحلة إيطاليا، لوضع نسخة المنديل المقدّسة فيها. وقد تبرّع السيّد زكي خربوطلي بأساسات الكنيسة والخوري بول كولة (الرهاوي) ببناء الطابق الأوّل. أمّا الطابق الثاني، فتمّ بناؤه من الأموال الّتي زادت في رحلة إيطاليا، ومن تبرّعات المؤمنين الرهاويّين من الحيّ والعالم.
هذا وقد زُيّنت جدران الكنيسة بلوحات تشرح تاريخ المنديل والرحلة التاريخيّة لإيطاليا لاستحضار النسخة المباركة منه. وفي عام 2003، تمّ تكريس الكنيسة وافتتاحها، ووضعت نسخة المنديل على يمين المذبح، وأصبحت الكنيسة مزاراً للمؤمنين للتبرّك من هذا المنديل.
في بداية عام 2003، تمّ تعيين مجلس مليّ جديد لمرعيث مار جرجس، وكان نائب الرئيس المهندس سمير قاطرجي، ولكنّ المجلس لم يستمرّ سوى عشرة أشهر، وتمّ حلّه لأسباب لا أتذكّرها.
قام بعدها المطران يوحنّا بتشكيل لجنة استشاريّة تقوم بمهامّ المجلس برئاسته وضمّت: المهندس عبد النور كلور (نائب الرئيس) والسيّد نعيم حمامجي، والسيّد عبّود قريو، السيّد بشير بيشار، السيّد إدوار سعادة، السيّد نوري قانونجي، السيّد صليبا كلاح، السيّد منير إستنبولي. وكانت هذه المشاركة هي الأخيرة بالنسبة لي بالمجالس المليّة لمرعيث مار جرجس.
على الرغم من تقدّمي بالسنّ، فإنّني لم أبتعد عن العمل بالشأن العامّ للطائفة، فشاركت في لجنة بناء مدرسة الكلمة ودار المسنّين، وعُيّنت عام 2009 مشرفاً ماليّاً لدار المسنّين (السيّدات).
الحرب الكونيّة على سوريا
في عام 2011 بدأت الحرب الكونيّة الشرسة على سوريا، ودخل المسلّحون حلب في تمّوز 2012، وحاصروا الأحياء الّتي بقيت تحت سلطة الدولة، وكانت تقدّر بربع مساحة حلب. كنت قد نقلت في عام 2004 جزءاً كبيراً من أعمالي لمنطقة كفر حمرة، وعندما اشتريت أرضاً هناك، وبنيت مستودعاً للبضائع ومكاتب للموظّفين، ثمّ أنشأت معملاً صغيراً لتعبئة الأرز.
مع سيطرة المسلّحين على المناطق المحيطة بالمستودع وخطورة الوصول إليه، رجعت إلى مكتبي القديم في حيّ السريان مع بعض البضائع وبعض الأساس المكتبيّ الّتي استطاع العمّال نقلها، إضافة لبعض آلات المعمل، فيما بقي الجزء الأكبر من البضائع والفرش المكتبيّ وسيّارات النقل في المستودع، ليحتلّه المسلّحون، ويسرقون ويدمّرون محتوياته.
في تشرين الثاني عام 2012، حدث التفجير الانتحاري الأوّل لمشفى الطائفة (السوريّ الفرنسيّ)، وكان يضمّ في طوابقه العلويّة دار المسنّين الّذي كنت مشرفاً عليه، والحمد للّه اقتصرت الأضرار على المادّيّات، ولم يصب أحداً من النزلاء بالأذى، ولكن بسبب خطورة المنطقة والأذى الّذي لحق بالمبنى، تمّ نقلهم للمطرانيّة في محلّة السليمانيّة للحفاظ عليهم.
في اليوم التالي تمّ خطفي من قبل مسلّحين ملثّمين من أمام بيتي وأنا متوجّه للمكتب، وتمّ نقلي تحت تهديد السلاح إلى مناطق سيطرة المسلّحين بحلب (وعلى ما أعتقد لمنطقة قريبة من بساتين الشيخ نجّار)، وكان ذلك قبل عيد الأضحى بعدّة أيّام. علم ابني باسيل بالخطف مباشرة عن طريق حنّا استيفان طاشجي. اتّصل الخاطفون مع باسيل، وطالبوا بفدية قدرها 15 مليون ليرة سوريّة وإلّا، فإنّهم سيرسلونني بسيّارة مفخّخة ليفجّروا بها حاجزاً للجيش السوريّ.
انتشر الخبر في حيّ السريان بسرعة، واتصل باسيل بأخيه فهد وأخي إدوار، وأخبرهما بما حدث، في حين اتّصل فارس من بيروت يسأل عن الأمر، فقد وصلته الأخبار بسرعة لهناك. وامتلأ المكتب بأبناء الحيّ الّذين يرغبون بالمساعدة، وعلى رأسهم الأب القسّ شكري توما والأب القسّ جورج كلور، وكان الأب شكري قد اتصل بسيّدنا المطران الّذي كان في الولايات المتّحدة، وأخبره بالواقعة فما كان من سيّدنا يوحنّا إلّا أن أتّصل بباسيل، وسأله إن كان يمكنه المساعدة، ومن هو الفصيل المسلّح الخاطف، فقال له باسيل أنّه يتواصل مع شخص واحد فقط يدّعي نفسه أبا محمّد، وأنّه لم يعرفه لأيّ فصيل تابع.
الحمد للّه أنّ ابني باسيل حافظ على رباطة جأشه، على الرغم من لهجة التهديد الّتي سمعها من الخاطفين، واستطاع تخفيض المبلغ إلى ثلاثة ملايين ليرة، وتمّ الإفراج عنّي بعد استلام المبلغ في منطقة الحيدريّة في الليلة الّتي سبقت يوم الوقفة لعيد الأضحى.
هناك أمران أريد أن أشير لهما في حادثة اختطافي
الأوّل: أنّ الخاطفين لا يعرفون أبني باسيل، ولا أبني فهد، ولكنّهم يعلمون الكثير من التفاصيل عن عملي وشركتي وشركائي ومنزلي، الّذي على ما يبدو كانوا يراقبونه ليتعرّفوا على مواعيد تحرّكاتي، وأيضاً السيّارة الّتي تقلّني عادة من المنزل للمكتب، ويعلمون أيضاً الكثير عن ابني فارس وزوجته ومكان سكنه وسيّاراته، وعلى ما يبدو أن الخاطفين على علاقة مع أحد العاملين في المستودع، فهو يعرف معلومات مهمّة عنّي وعن ابني فارس الّذي كان شريكي، ويعمل معي في مكاتب المستودع، علماً أنّ فارس وعائلته قد غادروا حلب بعد دخول المسلّحين إثر تهديدات هاتفيّة موجّهة له ولعائلته، في حين أنّ باسيل وفهد نادراً ما كانوا يحضرون للمستودع في كفر حمرة بسبب انشغالهم بأعمالهم.
ثانياً: في أثناء تواجدي عند الخاطفين، ذكر متزعّمهم أنّ خطّة الخطف كان مقرراً لها أن تتمّ في اليوم السابق لخطفي (يوم الأحد) ومن أمام كنيسة مار جرجس في حيّ السريان، وعلى مرأى ومسمع المتواجدين في الكنيسة والمسيحيّين بحلب وسكّان حيّ السريان على نحو خاص. إلّا أنّ التفجير أمام المشفى في ذلك اليوم، دفعهم إلى تغيير الخطّة وخطفي من أمام البيت. أخبرت بذلك سيّدنا المطران يوحنّا، وأنّ هناك من يستهدف السريان والمسيحيّين بحلب، ولكنّ سيّدنا لم يلتفت لكلامي، ولم يأخذه بالأهمّيّة، وعاد هذا الكلام لذاكرتي بعد خطف سيّدنا يوحنّا من قبل المسلّحين بعد 6 أشهر من خطفي.
اليوم المشؤوم بتاريخ أبرشيّة حلب
٢٢/٤/٢٠١٣، هو اليوم المشؤوم الذي خُطف فيه المطرانين يوحنّا إبراهيم مطران السريان الأرثوذكس بحلب والمطران بولس يازجي مطران الروم الأرثوذكس بحلب، في منطقة بريف حلب، أثناء محاولتهما تحرير كاهنين تابعين لطائفة الروم الأرثوذكس، ومازال مصيرهما مجهولاً حتّى يوم كتابة هذه الكلمات.
كان الخبر صاعقاً وغير مصدّق في البداية، فالمطران يوحنّا ليس فقط شخصيّة روحيّة سريانيّة بحلب، بل إنّه شخصيّة عالميّة لديه أصدقاء في مواقع حسّاسة في كلّ أنحاء العالم، واختطاف مثل هذه الشخصيّة، لا بدّ أن ينعكس على المجتمع المسيحيّ الحلبيّ خاصّة والسوريّ والمشرقيّ عموماً، والخوف من بقائهم بالوطن والرغبة بالهجرة مرّة أخرى.
في عام 2014، قدّمت استقالتي من منصبي في لجنة دار المسنّين، لرئيسي المجلسين المليّين السيّد إدوار طورو والدكتور مجد لحدّو؛ بسبب ظرفي الصحّيّ وتقدّمي بالعمر وعدم قدرتي على صعود الدرج في المطرانيّة عند زيارتي للدار. وتمّ تكريمي من المجلسين بإهدائي مسبّحة من الفضّة.
عام 2016 انتقلت للعيش باللاذقيّة مع ابني فهد وابني فارس (بعد أن ترك لبنان، وتوجّه للعيش باللاذقيّة)، وبعد أن ترك ابني باسيل حلب، وانتقل بسبب عمل زوجته إلى دمشق. كانت أعمالي قد توقّفت بحلب، وتقدّم بي السنّ. لأعود إلى حلب عام 2018. بعد أن سافر فهد إلى كندا وبعده فارس إلى بلجيكا، قمت بتسديد ديوني للمصارف الّتي استدناها قبل الحرب لتطوير أشغالنا، وساعدني بذلك شخص كريم ومحبّ وغيور طلب منّي عدم الإفصاح عن اسمه، فحافظت على بيتي، وحافظت على بيت فارس وأرض المستودع المهدوم. ومازلت مقيماً بحلب مع ذكريات الأيّام الحلوة والمرّة.
خاتمة
في نهاية هذه الشهادة أتوجّه بالشكر أوّلاً لمعدّ هذا الكتاب السيّد بيير جرجي الّذي سمح لي بتوثيق شهادتي هذه في عمله الحثّيّ المهمّ حول الرهاويّين بين الهجرتين وكذلك كلّ من ساعدني على كتابة هذه الشهادة، وأخصّ بالذكر الآنسة شميرام مقديس والمصوّر جورجيو عبد النور، مع الشكر لابني باسيل الّذي ساعدني بدعمه لي والصياغة والكتابة والتواصل مع معدّ هذا الكتاب.
صور وذكريات
مجموعة من العاملين بشؤون الطائفة بمنتصف الأربعينيات
مع مطران الولايات المتحدة بالسبعينات
حفل تكريم ٧٥ من الرهاويين بحلب بمناسبة مرور ٧٥ سنة على الهجرة وكان ذلك عام ١٩٩٩
مع نيافة المطران بطرس قسيس مطران حلب وتوابعها للسريان الأرثوذكس
عشاء عائلي مع نيافة المطران يوحنا إبراهيم، ويظهر في الصورة الأب شكري توما والشماس أفرام كريم (البطريرك الحالي )
حمامجي أبناء عم ـ 1933
والدي (بأقصى اليسار) مع أعمامي جورج (بالوسط) وسامي (على اليمين)
والدي ووالدتي فهيمة شماس بزيارة لحلب في بداية السبعينيات
والدي باسيل مع زوجتي إيلين وأختي لورة _ القامشلي بداية السبعينات
جدي نعوم حمامجي
جدتي بهية مصمنه جي حمامجي
الحواشي
- يبدو أنّ الشابّ باسيل يحبّ الاستقلالية بعمله وحياته، ويتّخذ من والده نموذجاً للشابّ الطموح.
- الطفل نعيم وبفطرته الطفوليّة يدعم والده في سبل العيش.
- طائر الفينيق هو طائر أسطوري، يحترق ويعود للحياة من الرماد، ويُعبّر عن القيامة بالأساطير القديمة.
- إنّ الروايات الشفهيّة المنتشرة حول مجتمع ما يجب أن تتّخذ من الجوانب العائليّة لشخصيّاتها محوراً أساسيّاً. إنّها تعبّر في ذات الوقت عن الشقاء الّذي يعمّ المجتمع، والّذي يظهر من خلال سيرة حياة الآباء والأمّهات. تكمن رسالة هذه الروايات في أنّها تنقل لأبنائنا في مختلف أنحاء العالم فكرة أنّ الإرادة والقوّة الداخليّة قادرة على تحقيق التغيير، حيث يظهر الطائر الفينيق نموذجاً رمزيّاً يتجسّد فينا. بغضّ النظر عن التحدّيات الّتي نواجهها، يمكننا التغلّب عليها وبناء أسر ومجتمعات جديدة تتحدّى الظروف الصعبة، وتتطلّع إلى مستقبل أفضل.
- من المعروف أنّ القوائم الانتخابيّة تشكّل قبل الانتخابات، وتضمّ أعضاء متفاهمين، ويتعاضدوا معاً لنجاح قائمتهم الانتخابيّة كاملة وقائمتنا لم تخترق إلّا بمرشّح واحد من القوائم الأخرى.